البيت المهجور
وقفنا امام المنزل بينما راح الرجال الاشداء المكلفون بنقل الاثاث يتحركون جيئة وذهابا وخرج احدهم يحمل طاولة كبيرة فافسح له زميلة الطريق ثم دخل المنزل ووقفنا هناك زوجي وانا وكانت تنبعث لمحة من ذكرياتنا مع كل قطعة ينقلها الحمالون الي السيارة الضخمة الواقفة امام الدار.
وتعاون رجلان علي حمل مائدة الطعام اخرجاها بكل دراية من الباب فعاودتنا ايام الماضي:
ولائم العشاء مع اطفالنا واحفادنا وكعك العيد واستضافة اصدقائنا الاعزاء لكننا في اكثر الاحيان كنا نجلس اليها منفردين و نتناول طعامنا عليها بكل بساطة وراينا المائدة ترتفع الي السيارة تغر في قعرها وتتواري في غيابهه .
لقد بنينا هذا المنزل منذ عشر سنوات وشرحنا للمهندسين البنائين طراز المسكن الذي نريدة تركنا لهم مهمة التنفيذ ... يطل منزلنا علي منظر رائع من النيل وعندما يكون الجو صافيا تتسني لنا رؤية المراكب والصيادين ... ومنظر غروب الشمس .. لوحه رائعه من خلق الرحمن .
لم تمض بضعة اشهر علي انتقالنا الي هذا المنزل حتي اشتريت كتابا عن النجوم ، واعتدت ان اقف امام المنزل في ليالي الشتاء الصافية اهتدي الي الكواكب المتالقة... وكنت اظل واقفه حتي ارتجف من شدة البرد ويؤلمني عنقي بسبب الاجهاد.
خرج رجل من المنزل حاملا مقعدي الخاص وسرعان ما تذكرت المكان الذي كان يحتله في قاعة الجلوس وعلي احد جانبيه تلك الطاولة التي اختفت الان داخل العربة ، ومصباح علي الجانب الاخر ويبلغ عمر هذا المقعد 40 سنة فقد اشتريته مع مقعد اخر عند زواجنا.
وسال رجل زوجي عن المكان الذيث يضع فية احد الاسرة المزدوجة في المنزل الجديد.. وبدا انه لم يسمع السؤال فقال له بعد برهه : ماذا؟ انا اسف ولابد انني كنت افكر في شئ اخر ...
فالي اين شتت به الافكار ؟ تري عاد الي العهد السعيد الذي قضيناه في هذا المنزل؟ ام الي المواقف الحزينه في لحظات الوداع وهنيهات القلق ؟ ام الي الايام الهنيئه الهادئة ؟ام الي اللحظات الغاضبة الثائرة ؟
ومللت استعراض قطع الاثاث التي تتالي امام ناظري ، فرحت اتجول في المنزل ورايت قاعة الجلوس خالية عارية الا من السجادة رفوف الكتب فارغة تماما وحطر لي انه لو قيض لي الان ان اعيد الكتب الي رفوفها لاستطعت ان اعطي لكل كتاب موضعه الصحيح .. ولكن كيف يمكنني ان اترك لمثل هذه الافكار ان ترواد خاطري .
وفي ليالي الشتاء كنا نجلس معا امام المدفأة ... حيث كان يطيب لنا الجلوس وتحلو القراءة ونستمتع بمشهد اللهب المتاجج.
واخذت جدران القاعة تردد صدي الكريات الطيبة فلقد كانت القاعة ملتقي ******** ومجمع الاصفياء سقي الله تلك الايام المليئة بالعيش الرغيد حيث كانت الكلمات النظرات تتدفق بالدفء
الوداد... وقد الفت كتابا هناك ، في تلك الغرفة المنحرفة عن غرفة نومنا لم اعد اجد فيها الاله الطباعة التي استخدمتها اذ رزمت نقلت مع باقي الاثاث ، كما صرت مخطوطة الكتاب نفسها والقيت ارضا مع الاشياء التافهه وعما قليل سيجئ احد الرجال لينتشلها وينقلها مع الحموله ثم وجدت نفسي امام غرفة نومنا فتذكرت ليالي الصفا والحب وليالي القلق والتتر وليالي المطر المنهمر فوق سطح المنزل والمنجرف فق الزجاج كالموج المتكسر وليالي الاستلقاء المريح اجالة الطرف في نجوم السماء بينما اتبادل مع زوجي عبارات الرقة والحنان ترقد كلبتنا المسنة علي الارض عند قدمي السرير ويصدر عنها احيانا نباح اجش خفيض وكانها تتذكر الماضي القريب وهاهي غرفة نومنا اقرب الامكنة الي قلبينا ينقل السرير منها الان ولا يبقي هناك سوي قطع طفيفه .
اصلت جولتي داخل المنزل امازوجي فقد عدل عن الدخول واكتفي بالقاء نظرة اخيرة علي الغرف عندما كان كلشئ في موضعة ورغب ان يفعل ذلك بمفردة كما لو انه كان يريد ان يحتفظ في مخليتة بالبيت وهومكتمل الاوصاف .
وذهبت الي المطبخ حيث توقفت الثلاجة عن الطنين وفرغت الرفوف من الاكواب الزجاجية والاطباق والانية الفضية وبدا المطبخ قاحلا بعد ما كان زاخرا بالحياة وخلا الفرن من كل
شئ فتذكرت تلك الايام البهيجة عندما كنت اري الديوك الرومية تكتسي لونها الذهبي واسمع
قرقرة الخضر وهي تطهي علي الموقد واحاول الان ان اشم رائحة الطبخ فلا استنشق شيئا علي الاطلاق في هذا الهواء الفاتر الذي تعوزه الحياة كما انني لم اعد اسمع صوت الاحفاد يمطرون جدهم اسئلة ملحة عن موعد تناول العشاء .
وجالت فكرة اخري في خاطري : ان عذا اللون الاحمر القاني يرمز الي الموت بل الي الحياة ..
الحياة التي تتحدي الفناء فعلي رغم براثن الصقيع فان تلك الوردة التي فكرت في اقتطافها
ستزدهر من جديد ليس الان وانما في فصل الربيع ولن نكون هنا انا وزوجي في هذا المكان
المحبوب لكي نراها سنكون عندئذ في منزلنا الجديد، حيث سنشهد ربيعنا في بقعة اخري مختلفة ويكون اشراقه بمثابة فجر جديد لنا.. وتوجهت نحو الباب الرئيسي ورايت ان زوجي لا يزال واقف هناك ولامس كتفي كتفة ويدي يده ووقفنا جنبا الي جنب مثل قدامي المحاربين.
وخرج رجل من المنزل ، منزلنا وقال انهم فرغوا من نقل كل شئ .
لقد امسي المنزل خاويا وكانه ليس منزلنا بعد الان ولكن ما عسي ان تصبح الذكريات .........
ذكريات الايام الهنيئة ؟ واطياف الايام الخالية ؟ وفصول الصيف الخوالي ؟ لا... لا يمكن نقل هذه المشاعر ايضا الي داخل العربة . انها ذكريات كامنة في اعماق قلوبنا وفي ارواحنا .
واقفل الرجل باب العربة الخلفي الضخم واشعل وقود المحرك وعلا هدير السيارة ، واشار الينا رجل من داخلها قائلا : سنراكم هناك... وحرك السائق جهاز تعشيق التروس وانطلقت السيارة وامسكت بيد زوجي وخطونا ببطء في اتجاه سيارتنا وهممت بالقاء نظرة اخيرة علي المنزل
فطلبت من زوجي ان لا ينظر الي الوراء.
ففتحت باب السيارة ولم انظر الي الخلف وابتعدنا عن منزلنا الخالي واستقرت الكلبة المسنة في المقعد الخلفي وتنهدت تنهدا عميقا وتساءلت عما اذا كان في امكاننا القاء نظرة اخيرة قبل الرحيل ... نظرة واحدة فقط .
رباه هل استطيع ان امتنع عن ذلك ؟
وابتعدنا في وجهة المستقبل ، الي منزلنا الجديد الصغير وتركنا وراءنا بابا موصدا ، باب المنزل القديم وعما قليل سينفتح في وجهنا باب المنزل الاخر ونلج عتبته معا انا وزوجي وندخله يدا بيد .
تتعاقب دورات الحياة بحلوها ومرها كما تتوالي فصول السنة : باب يوصد وآخر ينفتح .