بسم الله الرحمان الرحيم
إنكم إذن مثلهم!
كثيرًا ما نسمع هذه الكلمات: "نحن نؤثِر السلامة، السلامة لا يعدلها شيء"،
وغير ذلك من الكلمات التي معناها صحيح، ولكنها كثيرًا ما تُستخدم في سياقات
ومواطن وأحوال غير صحيحة؛ لأن كثيرًا من مستخدمي هذه الكلمات أرادوا بها
الهروبَ من المسؤولية، وذلك عندما يرون المنكر ولا يغيِّرونه، مُحتجِّين
بهذه الكلمات السابقة.
إن السلامة الحقيقية في التفاعل مع الأحداث، والأخْذ على يد الظالِم،
والأخْذ على يد الجاهل والمتجاهل، وليست السلامة في البُعد عمَّا يصدع
الرأس، ويُريح البال كما يقولون، فالأمة كلها - القائم على حدود الله
والواقع فيها - في سفينة واحدة؛ كما وصَفها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم
-: ((مثلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على
سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا
من الماء، مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا
ولَم نُؤْذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا
على أيديهم، نجوا ونجوا جميعًا))؛ رواه البخاري.
قال المهلب: "وفي حديث النعمان بن بشير تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه
استحقاق العقوبة بترْك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ شرح صحيح
البخاري؛ لابن بطَّال.
الفتنة إذا عمَّت هلَك الكل:
قال علماؤنا: الفتنة إذا عمَّت هلك الكلُّ، وذلك عند ظهور المعاصي؛ قال -
تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
[الأنفال: 25].
قال ابن عباس: "أمَر الله المؤمنين ألاَّ يُقِروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم
العذاب"، وكذلك تأوَّل الحسن البصري والسُّدِّي وغيرهما، قال السُّدِّي:
"نزلَت في أهل بدر خاصة، فأصابتْهم الفتنة يوم الجمل، فاقْتَتلوا"، وقال
ابن عباس - رضي الله عنها -: "نزلَت هذه الآية في أصحاب رسول الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم - وقال: أمَر الله المؤمنين ألا يُقِروا المنكر فيما
بينهم فيعمهم الله بالعذاب"، وهذه التأويلات هي التي تعضدها الأحاديث
الصحيحة، ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألتْ رسول الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - فقالت له: يا رسول الله، أنَهلِكُ وفينا الصالحون؟ قال:
((نعم، إذا كَثُر الخبث))، وفي صحيح الترمذي: ((إن الناس إذا رأوا الظالم
ولَم يأخذوا على يديه، أوْشَك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده))؛ تفسير
القرطبي، بتصرُّف.
هكذا دين الله، إذا أخَذ العقلاء وأهل العلم والدين على الجُهَّال والسُّفهاء، نجوا جميعًا، وإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا.
الساكت على المنكر شَريك الفاعل في الإثم:
روى أبو داود عن العُرْس بن عميرة الكندي، عن النبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم - قال: ((إذا عُمِلت الخطيئة في الأرض، كان مَن شَهِدها فكَرِهها -
وقال مرَّة: فأنكرها - كمَن غاب عنها، ومَن غاب عنها فرَضِيها، كان كمَن
شَهِدها)).
حديث في غاية الخطورة يبيِّن خطرَ إقرار الظالم أو فاعل المنكر على فعْله،
فالذي يقرُّ المنكرات وإن لَم يشاهدْها كفاعلها في الإثم سواء، والذي حضَر
المنكرات وأنْكَرها كمَن لَم يشهدْها.
وعلامة الرضا بالمنكر عدم التألُّم من الخَلل الذي يقع في الدين بفعْل
المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارهًا له إلاَّ إذا تألَّم للخَلل الذي
يقع في الدين، كما يتألَّم ويتوجَّع لفَقْد ماله أو ولده، فكل مَن لَم يكن
بهذه الحالة، فهو راضٍ بالمنكر، فتعمُّه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار"؛
تفسير القاسمي، ج 8 ص 2977.
معذرة إلى ربكم:
قد يقول قائل: "أنا لَم أُغَيِّر المنكر؛ لأن كلامي لا فائدة فيه"، وآخر
يقول:"لقد تكلَّمت كثيرًا؛ حتى مَللتُ الكلام"، وآخر يقول: "الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر لَم يترك لي حبيبًا ولا صديقًا"، أُذَكِّر هؤلاء جميعًا
وغيرهم بقوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ
قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا
قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 164 - 165].
فالذي يعظ ليس مطالَبًا بالنتيجة، وإنما هو الإعذار أمام الله يوم القيامة،
وحتى لا نُنسَب إلى التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحتى لا
نكون مثلَهم، وذلك بسكوتنا عن الباطل والمنكرات.
د. خالد راتب