السلام عليكم و رحمة الله
القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، كما قال تعالى:
{أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية [الرعد: 17]،وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء،
فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة،
إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ،فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به،
ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)،
وفي حديث كميل بن زياد عن علي - رضي الله عنه- قال: القلوب أوعية فخيرها أوعاها.
وبلغنا عن بعض السلف قال: القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها،
وهذا مثلٌ حسن، فإن القلب إذا كان رقيقًا لينًا كان قبوله للعلم سهلا يسيرًا، ورسخ العلم فيه وثبت وأثر،
وإن كان قاسيًا غليظًا كان قبوله للعلم صعبًا عسيرًا.
ولابد مع ذلك أن يكون زكيا صافيًا سليمًا، حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا، وإلا فلو قبل العلم
وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب من أن ينبت منعه
من أن يزكو ويطيب، وهذا بيِّن لأولي الأبصار.
و تلخيص هذه الجملة: أنه إذا استعمل في الحق فله وجهان:
*وجه مقبل على الحق، ومن هذا الوجه يقال له: وعاء وإناء ؛ لأن ذلك يستوجب ما يوعي فيه ويوضع فيه،
وهذه الصفة صفة وجود وثبوت.
*ووجه معرض عن الباطل، ومن هذا الوجه يُقال له: زكيٌ وسليم وطاهر؛
لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر وانتفاء الخبث والدغل، وهذه الصفة صفة عدم ونفي.
وبهذا يتبيَّن أنه إذا صُرف إلى الباطل فله وجهان كذلك:
*وجه الوجود: أنه منصرف إلى الباطل مشغول به.
*ووجه العدم: أنه معرض عن الحق غير قابل له.
وهذا يبين من البيان والحسن والصدق ما في قوله:
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ** بغيـر إناء فهو قلـب مضـيع
فإنه لما أراد أن يبيِّن حال من ضيع قلبه، فظلم نفسه بأن اشتغل بالباطل وملأ به قلبه حتى لم يبق فيه متسع للحق،
ولا سبيل له إلى الولوج فيه، ذكر ذلك منه، فوصف حال هذا القلب بوجهيه،
ونعته بمذهبيه، فذكر أولًا وصف الوجود منه فقال:
إذا ما وضعت القلب في غير موضع.
يقول: إذا شغلته بما لم يخلق له فصرفته إلى الباطل حتى صار موضوعا فيه، ثم الباطل على منزلتين:
إحداهما: تشغل عن الحق ولا تعانده مثل الأفكار والهموم التي في علائق الدنيا وشهوات النفس.
والثانية: تعاند الحق وتصد عنه، مثل الآراء الباطلة، والأهواء المردية من الكفر والنفاق والبدع وشبه ذلك،
بل القلب لم يخلق إلا لذكر الله، فما سوى ذلك فليس موضعًا له.
مجموع فتاوى ابن تيمية-رحمه الله
م ن