من مواقف الصحابة.. قبل بدر
توجيهات الرسول للمقاتلين: بدأ رسول اللهيصف الصفوف، وكانت هذه أول مرة يحارب فيها العرب في صفوف، وكان رسول اللهحريصًا على جعل الصفوف متساوية ومتراصة بنظام ودقة عالية.
وبدأ الرسوليلقي على جيشه بعض الأوامر العسكرية لتنظيم العملية الحربية، ففي سنن أبي داود عن أبي أسيد الساعدي t قال: "إِذَا أَكْثَبُوكُمْ (يَعْنِي إِذَا غَشُوكُمْ)، فَارْمُوهُمْ بِالنَّبْلِ، وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ"[1].
وذلك لكي لا يطلق المسلمون السهام والكفار ما زالوا بعيدين، فلا تصل إليهم السهام، فأحيانًا يكون المقاتل في حالة عصبية فيطلق السهام دون تركيز في أيِّ اتجاه، وهذا يضيِّع الذخيرة على الجيش.
هذا الكلام يحتاج منا وقفة؛ لكي نعرف صفة مهمة من صفات الجيش المنصور.
من الواضح الإعداد الجيد، والأخذ بكل أسباب النصر المادية، والعمل بكل ما هو متاح في اليد لتحقيق النصر.
أهم صفات الجيش المنتصر
- رأينا المخابرات الإسلامية وكيف وصلت لأخبار جيش مكة.
- رأينا التكتم الذي قام به الرسول.
- رأينا الموقع العسكري المتميز.
- رأينا التوجيهات العسكرية الحكيمة.
- رأينا الصفوف والترتيب.
- وسنرى مهارة القتال وقوة الضربات، والشجاعة والإقدام والاحترافية الحقيقية في الحرب، لقد كان إعدادًا في منتهى القوة.
ومع أن العدة معهلم تكن سوى فرسين وسبعين من الجمال، وكلٌّ منهم معه عدة المسافر لا عدَّة المقاتل إلا أن هذا ما كان في الاستطاعة.
لذلك ليس غريبًا أن تجد في سورة الأنفال السورة التي تتكلم عن بدر الآية الكريمة الجامعة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وََا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
تلاحم القائد مع شعبه
ناك موقف مهم وعجيب حدث أثناء تسوية صفوف المقاتلين المسلمين، ويعرفنا على صفة مهمة من صفات الجيش المنصور.
أثناء تسوية الصف وجد الرسولأحد الصحابة متقدمًا على غيره من الصحابة في الصف، غير مستوٍ في مكانه، فجاء إليه رسول اللهوكان يمسك بيده قدحًا -القدح هو السهم بدون نصل، أي عَصًا؛ ليسوِّي بها الصف- فلما وصل رسول اللهإلى الصحابي وكان اسمه سَوَاد بن غَزِيَّة ، ضربه بالقدح ضربة خفيفة في بطنه وقال له: "استوِ يا سواد".
لكن العجيب في الموقف هو ردُّ فعل سواد .
فاجأ سواد الجميع بقوله: "يا رسول الله أوجعتني، فأقدني".
أي أن الضربة آلمتني؛ فأريد منك القصاص، ضربة بضربة.
يريد أن يضرب مَنْ؟ يريد أن يضرب رسول الله.
يريد أن يضرب قائد الجيش، بل قائد الدولة الإسلامية.
موقف عجيب جدًّا!!
لكن الأعجب هو ردُّ فعل الرسول.
لقد استجاب في منتهى السرعة ودون أي جدل لطلب سوادt، ليس هذا فقط، فقد كانت بطن سواد عارية، والضربة جاءت على بطنه مباشرة، فكشفعن بطنه ليضربه سواد ضربة مماثلة تمامًا على البطن مباشرة، ودون ثياب.
هل تتخيل الموقف؟
أريدك أن تتخيل هذا الموقف يحدث في الجيش الآن بين جندي وعقيد، أو حتى رائد أو نقيب، لن أقول لواء أو مشيرًا.
هل من الممكن أن يحدث؟
نَعَمْ، حدث هذا مع قائد الدولة بكاملها.
كشف رسول اللهبطنه، وقال في بساطة: "اسْتَقِدْ" أي: اضرب واقتص، لكن سوادًا بمجرَّد أن رأى بطن الرسولاعتنقه، وقبَّل بطنه.
الرسولقال له: "ما حملك على هذا يا سواد؟" قال: يا رسول الله، قد حضر ما ترى (أمر الحرب والقتال)؛ فأردتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك[2].
يعني هناك احتمال أن أموت في المعركة، فرجوت أن يكون آخر ما مسست هو جسمك. فدعا له رسول الله.
وللعلم سواد لم يمُتْ في بدر، لكنه لفت نظرنا إلى صفة أصيلة من صفات الجيش المنصور، وهي تلاحم القائد مع شعبه، انصهار القائد تمامًا في شعبه.
- الجيش المنصور لا فرق فيه بين قائد وجندي، كما أن الأمة المنصورة لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم؛ كما قال الرسولللأنصار في بيعة العقبة الثانية: "أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي"[3].
رأينا هذا الكلام قبل ذلك في مكة، ورأيناه في قصة بناء المسجد النبوي، ورأيناه في كل خطوات بدر.
من أول لحظات الخروج من المدينة، والرسوليعيش مع شعبه الصحابة؛ فكانوا يتناوبون على الإبل، الإبل قليلة وعدد الجيش كبير نسبيًّا.
الرسولقائد المسلمين كان يتناوب في الركوب مع علي بن أبي طالب ، ومرثد بن أبي مرثد ، وفي رواية أنه كان يتعاقب الركوب مع عليٍّ وأبي لُبابة.
فقال الصحابيان لرسول الله: نحن نمشي عنك.
أنت لست فقط الرسول، بل أنت القائد أيضًا.
انظر ردَّ الرسول، قال: "مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلاَ أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا"[4].
الرسولالمعصوم يقول: "ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما".
كيف تكون حماسة الجندي عندما يجد القائد معه في كل خطوة، يحيا مشاكله، يتعب معه، يفرح معه، يحزن معه.
ليس هناك ترفُّع، ليس هناك كبر، ليس هناك ظلم، ليس هناك كراهية.
أحيانًا في بعض البلاد الإسلامية، يوجد ألف حاجز بينك وبين الزعيم لكي تصل إليه، وفي الغالب فإن الحواجز التسعمائة الأخيرة يكون من المستحيل أن تتجاوزها!!
هذه مشكلة لو وجدت في أمة لا يمكن معها أن يحدث نصر.
وعلينا أن نراجع سيرة زعماء الأمة الذين حدث في زمانهم نصر وتمكين وعزة، ستجد اختلاطًا كاملًا مع الشعب؛ صلاح الدين، قطز، عبد الرحمن الناصر، موسى بن نصير، يوسف بن تاشفين. راجعوا تاريخ اأمة، فهذه الأمور واضحة وضوح الشمس.
وعلى النقيض تمامًا، كل لحظات الانهيار والتردي في حال الأمة تكون مصحوبة بعزلة الحاكم عن شعبه.
اقرأ هذا الحديث في سنن أبي داود عن أبي مريم الأزدي ، قال: قال رسول الله: "مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وخَلَّتِهِمْ[5] وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ"[6.
د. راغب السرجاني
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه أبو داود (2663) ترقيم محيي الدين. قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (376) في صحيح الجامع.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص626.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص442.
[4] رواه أحمد (3901)، وحسنه شعيب الأرناءوط. وانظر: الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 4/24.
[5] الخَلَّة: الحاجة الشديدة.
[6] رواه أبو داود (2948)، وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (6595) في صحيح الجامع.
منقول