لما كان الحقُّ تقدَّست ذاته وتنزهت صفاته هو المقصد الحقيقي لإولي العزم من الرسل والعالين من الروحانيين , ولكل الأفراد الوارثين , ولإهل الخصوصية من أولياء الله المقربين , وما سواه من المقاصد وإن علا , ومن المطالب وإن سما , فهو بالنسبة له عز وجل وسائل توصل إليه , وآيات مشرقات دالاتٌ عليه , فلذلك تتأله لجنابه العلي النفوس الطاهرة , وتحنُّ إليه الأرواح الملكية
وإنما تشتاق تلك النفوس الطاهرة إلى الفردوس الأعـلى ؛ لا للفردوس وما فيها , أو تتمنى الرضوان الأكبر ؛ لا لنيل الرضوان وإدراكه ,و إنما ذلك كله لحظوة تؤدي إلى جلوة , وقرب ينبئ بحب ، والوسائل كلها إلي هذا المقصود الأعظم هي كالمقاصد لعظمتها
فإنه صلى الله عليه وسلم هو الداعي الحقيقي في هذا المقام المقصود بالذات دون غيره , لأن به سعادة الأبد والنعيم الحقيقي في الدنيا والآخرة , إذ هو صلى الله عليه وسلم الشمس المضيئة التي تبين سبل السعادة في الدنيا والآخرة , وتوضح الطريق المستقيم لذي يكون به الناهج عليه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين , فهو النجاة الحقيقية للعالم كله , والسعادة الحقيقة لبني الإنسان , ورحمة الله الحقيقية لمن اقتدي به وقبل وصاياه , يعز الله به بعد الذل , ويغني به بعد الفقر , ويقوي به بعد الضعف , سر قوله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الأعراف96
إن مقتضي كمال الأسماء والصفات إبراز المرائي التي تظهر فيها تلك المعاني ، ولما كان العالم أجمع ؛ إنما خلقة الله تعالي ليظهر سبحانه ببدائع إبداع صنعه ، وغرائب حكمته ، وعجائب قدرته ؛ وظهوره إما لنفسه فاعلا مختارا ، أو لخلقه ربا معبودا قهارا ، اقتضت إرادته الأزلية ؛ تعيين حقيقة كاملة قابلة لكمال تجليه ، وظهور معانيه ، فكانت تلك الحقيقة المختارة لحضرته ؛ هي حقيقة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكان صلى الله عليه وسلم هو السراج المنير ، الذي أسْرج سُرُجَ الرسل والأنبياء من قبله ، والصديقين والشهداء من بعده ،سمَّاه الله سراجا منيرا ، ولم يسمه شمسا لأن السراج يسرج غيره ، ولكن الشمس لا تجعل شمسا غيرها ، ولذا واثق الله الرسل بدءا له صلى الله عليه وسلم ، فكان المواثق {بكسر الثاء} هو الله , والمواثق {بفتح الثاء} حقائق الرسل صلوات الله عليهم ، فأشهدهم سبحانه وتعالي ظهوره حقا في حقيقة حبيبه ومصطفاه، ليلحظوا بالعيون التي وهبها لهم ، محاب الله ومراضيه فيما تقتضيه تلك الحقيقة ، فصارت بكمال الاستحضار معالم بين أعينهم ؛ في طورهم الدنيوي يمثلونها للأمم ويرسمون صورتها علي جواهر نفوس العالم ,وتشرق بهم شمسه صلى الله عليه وسلم
وكل آي أتي الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها يظهر أنوارها للناس في الظلم
ولذلك لم يخل سفر من الأسفار من لدن آدم إلى عيسي عليهم الصلاة والسلام، إلا وتجمَّل بذكر إسمه ، والحثِّ علي اتباعه , وكتم ذلك أعداء الحقِّ من أهل الكتابين ، ولكنَّ القرآن الكريم بيَّن لنا ذلك جليَّا
وقد بعث الله الرسل قبله ، بما لا بدَّ لأهل كل زمان من الكمالات التي بها يكون الناس في أمن وأمان ، وعلم بما يجب عليهم ؛ حتي تمَّ الدور ، وتأهل الناس للكمال المطلق ، فأشرقت تلك الشمس الكليَّة بكل الكمالات التي منحها الله الرسل منه صلى الله عليه وسلم ، فكان ما جاء به الرسل قبله كمالات نابوا في تبليغها عنه ، وهو صلى الله عليه وسلم أصل تلك الكمالات ، فلما أشرقت شمسه ؛ أشرقت بالكمال المطلق الذي يدلُّ عليه قوله تعــــالي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} المائدة3