أهلا وسهلا بك ضيفنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، وفي حال رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
قد يتبادر إلى ذهن البعض أن المقصود بفقه عمر معرفته بجوانب من فقه العبادات كالطهارة وغيرها، ولكن المقصود هنا هو الفقه بمعناه الواسع، أي دقة الفهم المراد في حديث النبي"مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". أي يرزقه فهمًا صحيحًا يدرك به حقائق الشريعة، وأصول الأحكام، وقد رزق الله عمر هذا النوع من الفقه.
من فضائل الفاروق عمر بن الخطاب t أنه أوتي الدين، والفقه، والشيء العظيم من العلم، عمر t كان رجلًا ملهمًا، ربانيًا، وهذا لا يأتي إلا من الإخلاص مع اللهفي السرائر والعلن، وأن يعبد الإنسان ربه كأنه يراه وخير من يتصف بهذه الصفات هم صحابة رسول اللهومنهم الفاروق عمر بن الخطاب t.
هذا العبقري الفذ أوتي ذكاءً مبدعًا متوقدًا، أفاضه عليه ربه سبحانه فكانت الحكمة تخرج من نواحيه، وارتفع الفاروق t إلى أعلى مستويات الذكاء الإنساني وشجاعة التفكير، وحسن التعليل، فالتقت في عبقريته أعمق رؤى البصيرة وأدق أسرار الشريعة.
الرسول والصحابة يشهدون لعمر بن الخطاب بالعلم والفقه :
ولقد أشاد الرسولبهذه النعمة التي حباها الله عمر، ونبه الصحابة على ما عنده لينهلوا منها، فقال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْعِلْمُ"[1].
قال عبد الله بن مسعود: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر، وقال أيضًا: إني لأحسب عُمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم.
فقد كان t حريصًا على حضور مجالس العلم بين يدي الرسوللا يترك واحدة منها تفوته.
قال عمر: "كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول اللهينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك".
وها هو يحث غيره على الفقه :
عن سفيان قال: قال الأحنف: قال لنا عمر بن الخطاب: "تفقهوا قبل أن تسودوا". قال سفيان: لأن الرجل إذا أفقه لم يطلب السؤدد[2].
ولم يكن عمر بالذي يحفظ العلم دونما فقه، ويحمله داخل عقله فتاوى جامدة، بل كان يتمتع بنظر ثاقب، وفهم سديد، يتحرك في كل الجهات يعرف لكل موقف ما يناسبه، وقد وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها في ذلك فقالت: "كان والله أحوذيًّا، نسيج وحده، فقد أعد للأمور أقرانها".
وذكاء عمر واسع عميم، ونظراته الثاقبة تجلي كل غامض، وتدخل الحنايا فتكشف الخفايا، وتنفذ إلى غور الأمور، وكان عليمًا بأحداث الدنيا وأسرار الحياة.
وكان عمر t ذا فقه عظيم بطبائع النفوس، لا تغره المظاهر، ولا يكتفي بالنظرة العابرة لتكوين أحكام على الآخرين فهو يقضي بذكائه لا بعواطفه، ولا يرضى بأحكام جزئية ممزقة، بل تتراحب أبعاد فكره الوقاد، لإيجاد الحلول الناجحة للمشاكل الواقعة.
يروي أبو وائل شقيق بن سلمة فيقول: حدثني الصبي بن معبد -وكان رجلاً من بني تغلب- قال: إن رجلا كان نصرانيا يقال له الصبي بن معبد أسلم فأراد الجهاد فقيل له ابدأ بالحج فأتى الأشعري فأمره أن يهل بالحج والعمرة جميعا ففعل فبينما هو يلبي إذ مر يزيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فقال أحدهما لصاحبه: لهذا أضل من بعير أهله فسمعها الصبي فكبر ذلك عليه فلما قدم أتى عمر فذكر ذلك له فقال له عمر t: "هديت لسنة نبيك". قال: وسمعته مرة أخرى يقول: "وفقت لسنة نبيك".
وفي رواية فأقبل عمر عليهما، فلامهما ثم أقبل عليّ فقال. فذكره. فمن سنة النبيالقران بين الحج والعمرة، وهو الجمع بينهما، فكأن من اعترض على ذلك لم يكن له العلم بالمسألة، أو ظن أنها من الأحكام المنسوخة.
ويستشعر المرء من كلمات الفاروق t الحرص على اتباع السنة، وتعليماتها.
فإن قلت: كان عمر t يمنع من الجمع، فكيف قرره على ذلك بأحسن تقرير؟
قلت: كأن عمر t يرى جواز ذلك لبعض المصالح، ويرى أنه جوز النبيلذلك، فكأنه كان يرى أن من عرض له مصلحة اقتضت الجمع في صفة، فالجمع في حقه سنة، والله أعلم. وهذا فيه ما فيه من الفقه العميق لعمر t.
وكان عبد الله بن مسعود t يخطب ويقول: "إني لأحسب عمر بين عينيه ملك يسدده ويقويه، وإني لأحسب الشيطان يفرق من عمر، أن يحدث حدثًا فيرده".
قيل: يغفر الله لك أنت أحق، أنت صاحب رسول الله. فقال: ويحك إني سمعت رسول اللهيقول: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ يَقُولُ بِهِ".
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال عمر بن الخطاب، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر.
وكان علي t يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر t.
وفي رواية أخرى: لقد كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه.
العوامل التي ساعدت عمر بن الخطاب على تحصيل العلم :
لقد بذل الفاروق جهدا مضنيا حتى يحصل هذا الكم الكبير من العلوم وقد كان t على علم بأسباب النزول.
حفظ عمر القرآن كله. في الفترة التي بدأت بإسلامه، وانتهت بوفاة الرسول، وقد حفظه مع أسباب التنزيل إلا ما سبق نزوله قبل إسلامه، فذلك مما جمعه جملة، ولا مبالغة إذا قلنا إن عمر كان على علم كثير بأسباب النزول، لشدة اتصاله بالتلقي عن رسول الله، ثم هو قد حفظ منه ما فاته، فأن يُلم بأسباب النزول والقرآن بكر التنزيل، والحوادث لا تزال تترى فذلك أمر يسير.
وقد كان عمر سببًا في التنزيل لأكثر من آية بعضها متفق على مكيته وبعضها مدني، بل كان بعض الآيات يحظى من عمر بمعرفة زمانه ومكانه على وجه دقيق قال عن هذه الآية: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
قال الفاروق عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله، عشية عرفة في يوم جمعة.
ولا ننس ونحن في سياق الكلام عن تميز عمر بن الخطاب بكثرة العلم أنه كان أحد سبعة عشر رجلا في قريش يعرفون القراءة والكتابة مما جعله مؤهلا لحمل هذا الكم الكبير من العلوم والمعارف.
ولم يتمتع عمر t بالعلم والفقه إلا بعد أن كابد في سبيل هذا العلم والفقه، وتجرع آلام تحصيله، وترك فراش نومه كثيرًا، ولازم رسول اللهكثيرًا، فلا ينال العلم إلا من مصاحبة العلماء، وخير من تميز بهذه الصفة هو الفاروق عمر بن الخطاب t الذي لازم الرسولطيلة حياته، وكان يشاركه الآراء، ومما ساعده أيضًا على تحصيل العلم:
1- حب عمر بن الخطاب للنبي:
أول الأشياء التي تدل على أن صاحبها يريد العلم النافع هي حب الرسول، والدفاع عنه بكل ما يملك، ويجود بنفسه رخيصة ولا يشاك رسول اللهبشوكة بسيطة.
والمواقف والأحداث تشير إلى حبه العميم، والمتدفق، فلا يكاد يشم رائحة إهانة النبيإلا ويشهر سيفه (دعني أقطع عنقه يا رسول الله) ويهدئ الرسولمن روع عمر، ويطلب إليه الهدوء، والنبييعلم أن ما حمل عمر على هذا التصرف إلا أنه يحب رسوله أشد ما يكون الحب.
لقد كان من بين أسرى بدر العباس بن عبد المطلب عم المعصوموحرص عمر t على هدايته، وقال له: أسلم يا عباس، فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب. ولذلك لما رأيت رسول اللهيعجبه إسلامك.
ومن شدة حب عمر بن الخطاب للنبيتظهر منه بعض المواقف التي تبين شدة هذا الحب وعمقه وتغلغله في نفس هذا الصحابي الجليل وليفصح لنا أبو هريرة عن هذا الأمر العجيب..
يقول أبو هريرة t لما توفي رسول اللهقام عمر بن الخطاب فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول اللهقد توفي، فإن رسول اللهوالله ما مات. ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول اللهقد مات.
ويقول أبو هريرة: وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول اللهوهو مسجى في ناحية البيت عليه بردة حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول اللهثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدًا.
ثم رد الصديق البرد على وجه الرسولوخرج على الناس وقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن سمعت أن أبا بكر تلاها فعقرت، حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول اللهقد مات[3].
عن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان فلما وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين، فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثيابًا غير ثيابه، ثم جاء فصلى بالناس فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله. فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله. ففعل ذلك العباس. رواه أحمد.
فقد لازم الفاروق رسول اللهفي مكة بعد إسلامه، كما لازمه كذلك في المدينة المنورة -حيث سكن العوالي- وهي ضاحية من ضواحي المدينة وفي هذه الضاحية نظم عمر نفسه، وحرص على أن يتعلم في مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، وقد كان لا يفوته علم من قرآن أو حديث، أو أمر أو حدث أو توجيه، قال عمر: "كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة- وكنا نتناوب النزول على رسول اللهينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك".
وهذا الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته، وثقافته، وهو كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول اللهمنجمًا على حسب الوقائع والأحداث، وكان الرسوليقرأه على أصحابه الذين وقفوا على معانيه وتعمقوا في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم، وكان عمر من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم، وعلى كل دارس ومحب لتاريخ عمر t أن يقف وقفة متأملة أمام هذا الفيض الرباني الصافي، الذي غذّى المواهب وفجر العبقريات.
وقد حرص الفاروق منذ إسلامه على حفظ القرآن الكريم وفهمه وتأمله وظل ملازمًا للرسوليتلقى عنه ما أنزل عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره وقد أقرأه الرسولبعضه وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسولوكان لعمر كثير من الأوقات فضل السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله.
2- الأخلاق والتواضع :
ثاني الأشياء التي جعلت الفاروق عمر بن الخطاب يصل إلى هذه الدرجة من العلم والفقه هي إخلاصه t وابتغاؤه بهذا العلم وجه الله. وهذا هو السبب الأول الذي جعله يرتقي إلى هذه الدرجة العالية من العلم.
فمن طلب العلم لله بارك الله فيه، ونفعه به، ونفع به المسلمين، وعمر t لم يطلب العلم كي يجاري به العلماء ويماري به السفهاء، ولكن طلب العلم تقربًا إلى الله؛ لأنه القائل في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]. فأشد الناس خشية لله هم العلماء.
وكانت دعوة الرسولفي الكتاب العزيز: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. لأن العلم يرفع من درجات الإنسان في الدنيا والآخرة، ويرفع الحق تبارك وتعالى بالعلم أقوامًا ويضع به آخرين. ولا بد لهذا العلم أن يتوج بالأخلاق لأن العلم وحده لا ينفع ما لم تزينه الأخلاق فعلم بلا أخلاق كشجرة بلا ثمر.
لم تمنع المنزلة العالية التي وصل إليها عمر t في الفقه والعلم من التواضع لله، ولين الجانب لإخوانه، وحسن المعاملة، وعدم التعالي بهذا العلم. ففي يوم من الأيام يقف عمر على المنبر، ويخطب في الناس أن رفقًا بالشباب، ودعا الناس إلى التخفيف في المهور، وعدم تحميل الشباب فوق طاقاتهم، فتقوم امرأة وتقول: يا عمر، يقول رب العزة تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20].
وهنا يقف عمر مع نفسه، ويفكر في الأمر، ولا تمنعه مكانته من إمارة المؤمنين ومكانته المرموقة بين المسلمين إلا أن يقول: "صدقت امرأة وأخطأ عمر"[4].
أمثلة من فقه عمر بن الخطاب :
فقه الطهارة :
من فقه عمر في الطهارة، أنه يكفي في خروج المذي: غسل الفرج، والوضوء.
يروي أبو عثمان النهدي رحمه الله أن سليمان بن ربيعة تزوج امرأة من عقيل، فرآها فلاعبها. قال: فخرج منه ما يخرج من الرجل. قال سليمان: أو قال: المذي. قال: فاغتسلت، ثم أتيت عمر، فقال: ليس عليك في ذلك غسل، ذلك أيسر.
وفي رواية عن عمر t فقال: ليس عليك في ذلك غسل، ذلك أيسر.
فقه الصلاة :
جمع الناس على إمام واحد في صلاة قيام رمضان، وكانوا يصلون متفرقين على أكثر من قارئ.
يروي عبد الرحمن بن القاري أنه خرج مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط.
فقال عمر: والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، فجمعهم على أُبي بن كعب. قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
سجود التلاوة :
من فقه عمر t أن سجود التلاوة ليس بواجب فلا إثم على تاركه، وإن كان ثواب فاعله عظيمًا.
يقول ربيعة بن عبد الله التميمي رحمه الله: قرأ عمر بن الخطاب t يوم الجمعة على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، إن الله لم يفرض السجود، إلا أن نشاء. ولم يسجد عمر بن الخطاب t.
وفي الخبر من الفوائد: أن للخطيب أن يقرأ القرآن في الخطبة وأنه إذا مر بآية سجدة ينزل إلى الأرض ليسجد بها إذا لم يتمكن من السجود فوق المنبر، وأن ذلك لا يقطع الخطبة ووجه ذلك فعل عمر مع حضور الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم. وهنا نرى الفقه المتوازن الذي يفرق بين الفرض والنفل، ثم التعليم الرائع في كونه لم يسجد في المرة الثانية مع فضل السجود لكي يثبت للناس عدم فرضيته.
فقه الإمام والمأموم :
قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن الحارث بن معاوية الكندي، أنه ركب إلى عمر بن الخطاب t يسأله عن ثلاث خلال قال: فقدم المدينة، فسأله عمر t: ما أقدمك؟ قال: لأسألك عن ثلاث خلال. قال: وما هن؟ قال: ربما كنت أنا والمرأة في بناء ضيق فتحضر الصلاة، فإن صليت أنا وهي كانت بحذائي وإن صلت خلفي خرجت من البناء؟ فقال عمر: تستر بينك وبينها بثوب، ثم تصلي بحذائك إن شئت. وعن الركعتين بعد العصر؟ فقال: نهاني عنهما رسول الله. قال: وعن القصص؟ فإنهم أرادوني على القصص. فقال: ما شئت. كأنه كره أن يمنعه. قال: إنما أردت أن أنتهي إلى قولك. قال: أخشى عليك أن تقص فترتفع عليهم في نفسك، ثم تقص فترتفع حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا، فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك[5].
الواقع يفرض أحكامًا جديدة :
لقد كان الاجتهاد في أمور الشريعة هو دأب الفاروق عمر t، يريد الوصول إلى الرأي الصواب، يريد تقديم الحلول التي تجلب المنفعة للمسلمين والتخفيف عنهم، والتقرب إلى الله، فها هو عمر t يرى أن من الفقه إعطاء المؤلفة قلوبهم في حال الضعف وعدم إعطائهم في حال القوة، فلم يُعطهم، رغم أن النبيلم يفعل ذلك، ولم يفعله أبو بكر الصديق t، ولكن عمر t رأى أن الإسلام ليس بحاجة إلى هؤلاء المؤلفة قلوبهم، فقد غدا الإسلام قويًّا، يُخشى بأسه، وتُسمع كلمته في العالم كله.
يقول تعالى في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
فقد ذكرت الآية الكريمة الأنواع التي تجب فيها الزكاة، ثمانية أنواع ومنهم المؤلفة قلوبهم.
ولكن عمر t رأى أن ذلك يكون عندما يكون الإسلام ضعيفًا يحتاج إلى من يزيد قوته، ولكن الإسلام زمان عمر قد أصبح القوة الأولى في العالم.
لم يعد الإسلام. بحاجة إلى المؤلفة قلوبهم، فهم عبء على الإسلام وأهله، فاجتهد عمر t وأبطل سهم المؤلفة قلوبهم ولم ينكر أحد من الصحابة فعله هذا.
حد السرقة وعام الرمادة :
ومعلوم من سيرة عمر في عام الرمادة أنه لم يقطع سارقًا كما في (المنتقى شرح موطأ مالك)
ومن فقهه t كما في غريب الحديث لابن سلام[6] حديث عمر أنه أخّر الصدقة عام الرمادة فلما أحيا الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين.
وهكذا نرى عمر t يجول بفكره في القضايا المعاصرة التي تطرأ على الدولة الإسلامية إبان خلافته، يقارن ويرجح ويبحث حتى يصل إلى الرأي الصواب الذي يعود بالخير والإيمان على أمة الإسلام.
فرحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t.
موافقات عمر بن الخطاب للقرآن الكريم:
لقد نزل القرآن الكريم في الكثير من آياته موافقًا لرأي الفاروق عمر t، فلقد كان الحق على لسان عمر وقلبه، فقد كان رجلاً ربانيًّا راقب ربه في كل أموره، حتى غدا يعبد الله كأنه يراه.
"عن ابن عمر مرفوعًا: ما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر"[7].
وإليك طرفًا من موافقات القرآن الكريم لآراء الفاروق عمر t.
1- أسرى غزوة بدر :
شارك عمر t في غزوة بدر، وعندما استشار رسول اللهأصحابه بعد المعركة في شأن الأسرى، وقد كان رأي الصديق والرسولفداء الأسرى بالأموال، وتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وكان من رأي الفاروق عمر t قتل هؤلاء الأسرى.
ونزل القرآن الكريم موافقًا لرأي الفاروق عمر بن الخطاب.
كان من رأي الفاروق t استئذان الأطفال قبل الدخول، عند بلوغ الأطفال مرحلة الحلم، فنزل القرآن الكريم موافقًا لرأي عمر بن الخطاب t.
"يروى أن رسول اللهبعث غلامًا من الأنصار يقال له: مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه فوجده نائمًا قد أغلق عليه الباب فدق عليه الغلام الباب فناداه ودخل فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء, فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق إلى رسول اللهفوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجدًا شكرًا لله.
قال عمر: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]. قَالَ فَدُعِيَ عُمَرُ: فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً. فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]. فَكَانَ مُنادِي رَسُولِ اللَّهِإِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى أَلا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً. فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا بَلَغَ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا، انْتَهَيْنَا. وهكذا خضع تحريم الخمر لسنة التدرج، وفي قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؟ فهم عمر من الاستفهام الاستنكاري أن المراد به التحريم، لأن هذا الاستفهام أقوى وأقطع في التحريم من النهي العادي، ففي ألفاظ الآية وتركيبها وصياغتها تهديد رهيب واضح كالشمس في التحريم.
جمع القرآن الكريم :
كان من بين شهداء المسلمين في حرب اليمامة الكثير من حفظة القرآن الكريم، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر الصديق t بمشورة عمر بن الخطاب t بجمع القرآن، حيث جُمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال.
"لقي زيد بن ثابت عمر بن الخطاب فقال له: إن هذا القرآن هو الجامع لديننا فإن ذهب القرآن ذهب ديننا، وقد عزمت على أن أجمع القرآن في كتاب. فقال له: انتظر حتى نسأل أبا بكر. فمضيا إلى أبي بكر فأخبراه بذلك، فقال: لا تعجل حتى أشاور المسلمين. ثم قام خطيبًا في الناس فأخبرهم بذلك فقالوا: أصبت.
فجمعوا القرآن، وأمر أبو بكر مناديًا فنادى في الناس: من كان عنده من القرآن شيء فليجئ به. قالت حفصة: إذا انتهيتم إلى هذه الآية فأخبروني:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. فلما بلغوا إليها قالت: اكتبوا والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر. فقال لها عمر: ألك بهذا بينة؟ قالت: لا. قال: فوالله لا نُدخل في القرآن ما تشهد به امرأة بلا إقامة بينة"[11].