القضاء والقدر
قال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ
وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
[البقرة:216].
سبحان من وسع علمه كل شيء، سبحان من جعل أمر المؤم
ن كله خير ولن يكون العبد مؤمنا حتى يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، حلوه ومره.
فما الإيمان بالقضاء والقد؟ وما هي أنواع القدر؟
وما صفات المؤمن بقضاء الله وقدره؟ وما أثر الإيمان بالقضاء والقدر؟
أما القضاء لغة فهو: الحكم، والقدر: هو التقدير.
فالقدر:
هو كل ما قدّره الله من خواص في الأشياء، فالحديدُ وصلابته،
والخشبُ وقدرتُه على الاحتراق، والنارُ وقدرتُها على الإحراق،
والماء وسيولته، ودخوله في حياة كل المخلوقات، والهواء وغازيته،
والإنسان بطبيعة خلقه، وما جعله الله فيه من غرائز وحاجات عضوية،
قدّرها الله فيه، فهذا هو القدر
وهو مما ليس له علاقة بأفعال الإنسان الاختيارية،
إن أستخدم ما قدره الله في الأشياء من خواص، إن استخدمها في خير،
أو أستخدمها في شر، فلا نقول أن الميل الجنسي مثلاً،
مما قدره الله في الإنسان، إلزامي لفعل الفاحشة، أو المسدس إلزامي لقتل البريء،
أو النار إلزامية للاعتداء بحرق أحدهم، أو حرق بيته .
قال الله تعالى في سورة الفرقان 2
“وخلق كل شيء فقدره تقديرا”
وقال تعالى في سورة القمر 49
( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )
والقضاء:
هو ما حكم به الله سبحانه من أمور خلقه وأوجده في الواقع.
وعلى هذا فالإيمان بالقضاء والقدر معناه: الإيمان بعلم الله الأزلي،
والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه.
أما اللوح المحفوظ:
فهو ما يتم فيه الخلط بينه وبين أفعال الإنسان الاختيارية والقضاء والقدر،
فيقال عند حدوث أشياء من القضاء هذا مكتوب،
وعند حدوث أشياء مصدرها فعل الإنسان وظلمه وسوء تصرفه وسوء
إدارته وتدهور معيشته، هذا مكتوب، أو أن يقال عندما يقوم أحدهم بأفعال
محرمة كالقتل أو الزنا أو شرب الخمر أو ظلم الزوجة والأبناء،
هذا مكتوب، أو أن يقوم الحاكم بالحكم بغير ما أنزل الله هو ومن عاونه
وناصره، ويتسبب في محاربة دين الإسلام،
ويقوم بتدمير النهضة الصناعية أو الزراعية، والتسبب في الفقر والحاجة
و ضياع بلدان المسلمين، وهتك أعراضهم وسفك دمائهم،
وتدهور الأوضاع الاقتصادية والعلم والصحة،
ويتسبب في ظلم الناس وضياع الشباب المسلم والشابات،
أو بالاستسلام للأعداء وتقاسم المصالح معهم، يقال عن هذا كله أنه مكتوب .
نعم إن كل ما يحصل في الكون هو مكتوب في اللوح المحفوظ،
خيراً كان أم شراً، من اختيار العبد أو مما هو مقضيٌ عليه،
نتيجة فعله أم نتيجة فعل غيره، فقد كُتب في اللوح المحفوظ أن العبد فلان
قد عُرض عليه فعل الفاحشة، فاختار العفاف مخافة الله، أو مخافة الناس،
أو حياءً، أو حمية لسمعته، فيسُجل في اللوح المحفوظ
ما سيختاره العبد بإرادته ونيته وعواقب فعله وكل شيء.
هذا السجل وهذا التسجيل في اللوح المحفوظ هو علم الله المسبق
عن خلائقه وأفعالهم وأقوالهم وتصرفاتهم وتجاوبهم مع رسائله ورسله لهم،
وليس اللوح المحفوظ مقِرّراً تقريراً إجبارياً لما سيفعله أحدهم من ظلم أو اعتداء،
أو ما سيفعله من خير وصدقة وحسن خلق وبر وطاعة،
فكلمة مكتوب بجب أن تحمل مفهومَ أنه مقضيٌّ قضاه الله،
وقد بينا ما معنى القضاء، وليس للإنسان دفع ما قضاه الله عليه،
ولا يصح أن تحمل كلمة مكتوب مفهوم أن كل فعل يقع على الإنسان
أو منه هو فعل إجباري، قد فرضه الله عليه وألزمه به، كما هو في اللوح المحفوظ .
ويجب أن نلفت النظر أن أفعال الإنسان الاختيارية لا تكون جبراً عن الله عز وجل،
وإنما هي مما قرره الله على الإنسان أن أعطاه حرية التصرف
بين الفعل والترك، وجعل عقله مناط التكليف،
وفعله الاختياري مناط الحساب والعقاب، أي أن الله لا يقع في ملكه إلا ما يريد .
أي أن لو أخذنا مسألة الزواج وإنجاب الأبناء وعلاقتها بأفعال الإنسان الاختيارية،
فاقتران شخصين بعينيهما بالزواج هو اقتران،
قد أجتهد فيه الطرفان أو من يليهما باختيارهما،
كما أراد الله للإنسان أن يختار الشيء أو يجتنبه،
ولكن هذا الاختيار للزوجين مُتَمَّمٌ إذا أراد الله له أن يتم،
ولن يتم إذا لم يرد الله ذلك، وكذا إنجاب الأبناء،
إذا لم يكن ما يريده الله أن يحصل، فلن تنفع إرادة المنجبين ومحاولاتهم للإنجاب،
ولو امتنعوا وأراد الله أن ينجبا طفلاً،
فسيغير الله إرادة عبديه لأن يقوما بمحاولة الإنجاب،
وينجبا بما أراده الله لهما، كل هذه الأفعال مما تم ومما سيتم
ومما فُعل أو تُرك أو اُجّل قد علمه الله مسبقاً، وتسجّل في اللوح المحفوظ .
أما المحاسبة على الأفعال تكون فقط في إطار الأفعال الاختيارية للإنسان،
أي في الدائرة التي يسيطر عليها الإنسان مختاراً،
على مقياس ما أمر الله به عباده من النواهي والواجبات،
كما ورد في الرسالات السماوية للشعوب والقرى المختلفة قبل الإسلام،
وللناس كافة بعد رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام .
ولا تكون المحاسبة بالثواب والعقاب فيما اختاره الله لعباده وأراده
لهم مما ليس في ملكهم وقدرتهم على فعله، وعلى هذا الأساس تكون
المحاسبة على جميع الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها،
ولا يكون العذر فيما كان الإنسان قادراً عليه ولا يقوم به،
ولا يكون العذر فيما يحصل على الإنسان من مصائب وكوارث من أفعال،
هي في الأصل من صنع يده ونتيجة لإهماله أو سوء تقديره أو جهله،
أو نتيجةَ مخالفته لأوامر الله صراحة، ثم يضْفيها على خالقه أو على القضاء
والقدر والمكتوب، أو على غيره من الناس، أو على الحكام،
أو على علماء السوء، أو على الزمان أو المكان .
فيجوع الناس ويموتون في بلاد ما،
لأجل أنه لم يُطبّق حكم الله في الأنظمة الاقتصادية،
ولأنه لم يتم تمكين الناس من ثروات الأرض بالكيفية التي أمر الله بها،
ولم يتم توزيع الثروة عليهم، ولأنه استحوذ عليها أصحاب القوة
عندهم والسلطان فمنعوهم عنها. ثم يشتكي الناس القضاء أو القدر أو المكتوب،
ويرفعوا أيديهم متضرعين إلى الله أن يرزقهم .
ولا نقول أن السبب في الفقر إذن هم الحكام وأصحاب السلطان،
والناس بُرآء من الإثم، لا نقول ذلك لأن حكم الله قد نزل على الناس،
وقد أرسل الله الرسل بالهدى والبينات، وأقام الحجة على الناس أجمعين،
لذا فإن فقر الناس بهذه الكيفية ليس من قضاء الله أو قدره،
أو لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ،
ولكن السبب في ذلك أنهم هم الذين صنعوا الفقر لأنفسهم،
برضاهم وبسكوتهم على الظلم وإعانتهم عليه، ومخالفتهم أمر الله.
والزوجة والزوج يظلم كلّ منهما الآخر،
ويتعديان على حقوق بعضهما، أو يأكل أحدهما حق الآخر،
أو تعبث زوجة بعرضها أو بمال زوجها أو طاعته،
مخالفين أوامر الله ونواهيه، ثم يسعيان إلى الطلاق،
ثم يقولان قضاء الله وقدره، أو لأنه كتب في اللوح المحفوظ .
والناس تشكي زمانها وأهل زمانها، وقد أهملوا أمر الدعوة
والحقوق كما أمر الله ونهى، ثم يضفون ذلك على القضاء والقدر أو أنه مكتوب.
وأمريكا وأوروبا يهجمان على بلدان المسلمين فيعربدون فيها،
ويسفكون الدماء ويهتكون الأعراض ويحرقون الحرث،
ويلوثون البلاد بالأشعة النووية، وقد ترك الناس الدعوة للحكم
بالإسلام والدعوة لإقامة الجهاد، وجيوش المسلمين نائمة، ويرى الناس
ذلك من قضاء الله أو قدره،
وليس لأنهم هم الذين بأيديهم تسببوا في هذا الوضع المريع،
ثم يصلون ويصومون، ويرفعون أكفهم بالدعاء بأن يزيل
عنهم هذا الكرب، الذي صنعوه بأيديهم .
قال الله تعالى في سورة يس 12
إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا
وآثارهم وكل شيء أحصينه في إمام مبين
وقال الله تعالى في سورة الأنعام 3
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
وقال الله تعالى في سورة 60
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ
فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
وينبغي أن تعلم :
أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع:
العلم، والكتابة، والمشيئة، والإيجاد.
فالعلم: أن تؤمن بعلم الله سبحانه بالأشياء قبل كونها، قال تعالى:
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ
إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ
ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ
[يونس:61].
والكتابة: أن تؤمن أنه سبحانه كتب ما علمه بعلمه القديم في اللوح المحفوظ، قال تعالى:
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ
مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
[الحديد:22].
والمشيئة:
أن تؤمن أن مشيئة الله شاملة فما من حركة ولا سكون في الأرض
ولا في السماء إلا بمشيئته، قال تعالى:
{ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ} .
[الإنسان:30].
الإيجاد:
أن تؤمن أن الله تعالى خالق كل شيء، قال تعالى:
{ اللَّه خَالِق كُلّ شَيْء وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء وَكَيْل }
[الرعد:16].
لا يجوز لأحد أن يحتج بقدر الله ومشيئته على ما يرتكبه من معصية أو كفر،
وقد أورد رب العزة ذلك في كتابه ورد عليهم فقال:
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا
مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم
مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إلا تخرصون
[الأنعام:148].
أي هل اطلع المدعي على علم الله فعلم أنه قد قدر له أن يفعل ففعل،
علما أن قدر الله غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه فلا يصح أن يقول أحد :
كتب الله علي أن أسرق فأنا ذاهب لتنفيذ قدره، فهل اطلع على اللوح المحفوظ فقرأ ما فيه.
إن على العبد المؤمن حقا أن ينفذ أوامر الله وأن يجتنب نواهيه وليس المطلوب
أن يبحث عن كنه مشيئة الله وعلمه فذلك غيب ولا وسيلة إليه.
وعقولنا محدودة والبحث في ذلك تكلف لم نؤمر به، بل قد جاء النهي
عنه. يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: وأصل القدر سر الله تعالى
في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل
والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان. وفي الحديث:
((خرج علينا رسول الله ذات يوم والناس يتكلمون في القدر،
قال: فكأنما تقفأ في وجهه حب الزمان من الغضب،
فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم))
([1]).
وأما أنواع الأقدار:
فلقد قسم العلماء الأقدار التي تحيط بالعبد إلى ثلاثة أنواع
الأول:
نوع لا قدرة على دفعه أو رده ويدخل في ذلك نواميس الكون وقوانين الوجود،
وما يجري على العبد من مصائب وما يتعلق بالرزق والأجل
والصورة التي عليها وأن يولد لفلان دون فلان.
قال تعالى:
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[يس:38].
(( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ))
[آل عمران:185].
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ
إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ ...
[الحديد:22].
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً (31)
[الرعد:26].
" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ"
[الأعراف:34].
( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ )
[الانفطار: 8].
ومن ثم فهذا النوع من الأقدار لا يحاسب عليه العبد لأنه خارج عن إرادته وقدرته في دفعه أو رده.
الثاني:
نوع لا قدرة للعبد على إلغائه ولكن في إمكانه تخفيف حدته،
وتوجيهه ويدخل في ذلك الغرائز والصحبة، والبيئة، والوراثة.
فالغريزة لا يمكن إلغاءها ولم نؤمر بذلك وإنما جاء الأمر بتوجيهها
إلى الموضع الحلال، الذي أذن الشرع به وحث عليه وكتب بذلك الأجر للحديث:
((وفي بضع أحدكم أجر))
([2]).
والصحبة لا بد منها فالإنسان مدني بطبعه، وإنما جاء الأمر بتوجيه هذا الطبع إلى ما ينفع:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
[التوبة:119].
والبيئة التي يولد فيها الإنسان ويعيش، لا يمكن اعتزالها ولم نؤمر
بذلك وإنما يقع في القدرة التغير والانتقال إلى بيئة أكرم وأطهر،
والرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا أوصاه العالم حتى تصح
توبته أن يترك البيئة السيئة إلى بيئة أكرم فقال له: انطلق إلى
أرض كذا وكذا فإن فيها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم،
ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء([3]).
وهنا لا يكون الحساب على وجود ما ذكرناه من غريزة
وصحبة وبيئة وإنما على كيفية تصريفها وتوجيهها.
الثالث:
نوع للعبد القدرة على دفعها وردها، فهي أقدار متصلة بالأعمال الاختيارية
والتكاليف الشرعية فهذه يتعلق بها ثواب وعقاب وتستطيع ويدخل
في قدرتك الفعل وعدم الفعل معا، وتجد أنك مخير ابتداءً وانتهاءً.
فالصلاة والصيام باستطاعتك فعلها وعدم فعلها، فإذا أقمتها أثابك الله
وإذا تركتها عاقبك، والبر بالوالدين باستطاعتك فعله بإكرامهما
وباستطاعتك عدم فعله بإيذائهما.
وكذا يدخل في ذلك رد الأقدار بالأقدار.
فالجوع قدر وندفعه بقدر الطعام.
والمرض قدر ونرده بقدر التداوي، وقد قيل:
((يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها أترد من قدر الله شيئا؟
فقال رسول الله : هي من قدر الله))
([4]).
وهذا النوع الثالث هو الذي يدخل دائرة الطاقة والاستطاعة،
وهنا يكون الحساب حيث يكون السؤال: أعطيتك القدرة على الفعل
وعدم الفعل، فلِمَ فعلت (في المعصية) ولِمَ لم تفعل (في الطاعة)
كما يدخل الجانب الثاني من النوع الثاني في توجيه الأقدار
كما ذكرنا في النوع السابق فانتبه.
وأما صفات المؤمن بقضاء الله وقدره:
فهناك صفات لابد للمؤمن بقضاء الله وقدره منها:
أ- الإيمان بالله وأسمائه وصفاته
وذلك بأن الله سبحانه لا شيء مثله، قال تعالى:
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
... جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
[الشورى:11].
لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته وقد قال العلماء:
ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك فلا تشبيه ولا تعطيل،
أي لا نشبه الله بأحد من خلقه ولا ننفي صفات الله تعالى.
ب- الإيمان بأن الله تعالى موصوف بالكمال في أسمائه وصفاته.
وفسر ابن عباس قوله تعالى:
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )
[فاطر:28].
حيث قال: الذين يقولون:
أن الله على كل شيء قدير.
ج- الحرص:
وهو بذل الجهد واستفراغ الوسع وعدم الكسل والتواني في عمله.
د- على ما ينفع:
حرص المؤمن يكون على ما ينفعه فإنه عبادة لله سبحانه.
هـ- الاستعانة بالله:
لأن الحرص على ما ينفع لا يتم إلا بمعونته وتوفيقه وتسديده سبحانه.
و- عدم العجز:
لأن العجز ينافي الحرص والاستعانة.
ز- فإن غلبه أمر فعليه أن يعلق نظره بالله وقدره والاطمئنان إلى مشيئة الله
النافذة وقدرته الغالبة وأن الله سبحانه أعلم بما يصلحه، أحكم بما ينفعه،
أرحم به من نفسه، وأن الله لا يقدر لعبده المؤمن إلا الخير.
وذلك مصداق قول النبي :
((المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان))
([5]).
وأما أثر الإيمان بالقضاء والقدر: فإن الإيمان بالقضاء والقدر له آثار كريمة منها:
الأول: القوة:
وذلك سر انتصار المسلمين في معاركهم مع أعداء الله، ومعظمها كانوا فيها قلة
ولكنهم أقوياء بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر حيث تربوا على قوله تعالى:
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
[التوبة:51]،
وللحديث:
((من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله))
([6]).
يقول أبو بكر لخالد بن الوليد :
(احرص على الموت توهب لك الحياة).
ويبعث خالد بن الوليد إلى رستم يقول له:
(لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة).
ثانيا: العزة:
فالمؤمن عزيز بإيمانه بالله وقدره فلا يذل لأحد إلا لله سبحانه لأنه علم
وتيقن أن النافع الضار هو الله، وأن الذي بيده ملكوت كل شيء هو الله.
وأنه لا شيء يحدث إلا بأمر الله:
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
[الأعراف:54].
فالخلق خلقه، والأمر أمره، فهل بقي لأحد شيء بعد ذلك؟
ثالثا: الرضى والاطمئنان:
فنفس المؤمنة راضية مطمئنة لعدل الله وحكمته ورحمته ويقول عمر :
(والله لا أبالي على خير أصبحت أم على شر لأني لا أعلم ما هو الخير لي ولا ما هو الشر لي).
وعندما مات ولد للفضيل بن عياض رحمه الله: ضحك، فقيل له: أتضحك وقد مات ولدك؟ فقال: ألا أرضى بما رضيه الله لي.
وقد ميز الله بين المؤمنين والمنافقين في غزوة أحد، فالاطمئنان علامة، والقلق وسوء الظن بالله علامة النفاق، قال تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
[آل عمران:154].
رابعا: التماسك وعدم الانهيار للمصيبة
أو الحدث الجلل، قال تعالى:
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[التغابن:11].
قال علقمة رحمه الله: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وقال ابن عباس: (يهدي قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه).
فلطم الوجوه، وشق الجيوب، وضرب الفخذ، وإهمال العبد لنظافة الجسد،
وانصرافه عن الطعام حتى يبلغ حد التلف،
كل هذا منهي عنه ومناف لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.
ولله در الشاعر:
إذا ابتليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ما لأمرىً حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحيانا بصـاحبه لا تيأسـن فنعـم القـادر الله
خامسا: اليقين بأن العاقبة للمتقين:
وهذا ما يجزم به قلب المؤمن بالله وقدره أن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا، وأن دوام الحال من المحال، وأن المصائب لا تعد إلا أن تكون سحابة صيف لابد أن تنقشع وأن ليل الظالم لابد أن يولي، وأن الحق لابد أن يظهر، لذا جاء النهي عن
اليأس والقنوط:
وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ
[يوسف:87].
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا ... مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا.
[الطلاق:1].
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21 [المجادلة ].
يتــــــــــبع