رحمته صلى الله عليه وسلم بالخلق
جمع الله سبحانه وتعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم صفات الجمال والكمال البشري، وتألّقت روحـه الطاهرة بعظيم الشمائـل والخِصال، وكريم الصفات والأفعال، حتى أبهرت سيرته القريب والبعيد، وتملكت هيبتهُ العدوّ والصديق، وقد صوّر لنا هذه المشاعر الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه أبلغ تصوير حينما قال: وأجمل منك لم ترَ قط عيني *** وأكمل منك لم تلد النساء
خُلقـت مبرأً من كـل عيب *** كأنك قد خُلقت كما تشاءفمن سمات الكمال ما تحلى به صلى الله عليه وسلم من خلق الرحمة والرأفة بالغير، كيف لا وهو المبعوث رحمة للعالمين، قال الله تعالى في حقّهوما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (سورة الأنبياء، الآية:107)، وهذا شأن من خصّه ربه بالعناية والتأديب، فوهبه الله قلباً حيّاً يرقّ للضعيف، ويحنّ على المسكين، ويعطف على الخلق أجمعين، وصارت الرحمة له سجيّة، حتى شملت الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فنال بذلك رحمة الله، والتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه الإمام أحمد رحمه الله.
وللرحمة مظاهر تجلّت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة، فلنتعرف على بعض من جوانب هذا الخلق الرفيع عند أكرم الخلق أجمعين.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ولده إبراهيم رضي الله عنه يأخذه فيقبله ويشمّه، كما روى ذلك الإمام البخاري رحمه الله.
وجاء أعرابي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فتعجب الأعرابي وقال: تقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟" رواه البخاري رحمه الله.
وأورد الشيخان رحمهما الله أنه لما مات حفيده صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "يا رسول الله، ما هذا؟"، فأجابه قائلا: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء
لما كان من طبيعة النساء الضعف وقلة التحمل، كانت العناية والرفق بهنّ أكثر من غيرهنّ، وقد تجلّى ذلك في خلقه وسيرته على أكمل وجه، وذلك في حثّه صلى الله عليه وسلم على حسن رعاية البنات ورحمتهنّ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من ولي من البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له سترا من النار" رواه الشيخان رحمهما الله. بل إنه شدّد في الوصية بحق الزوجة والاهتمام بشؤونها فقال صلى الله عليه وسلم: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة رحمهم الله.
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك المثل الأعلى، وكان من أمر تلطّفه بأهله عجباً، حتى إنه كان يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب البعير، كما روى ذلك الإمام البخاري رحمه الله.
وكان صلى الله عليه وسلم عندما تأتيه ابنته فاطمة رضي الله عنها يأخذ بيدها ويقبلها، ويجلسها في مكانه الذي يجلس فيه.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالضعفاء
عموماًهذه الفئة من المجتمع قد نالت حظاً وافراً من رحمته صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما وجّه به أصحابه رضي الله عنهم من الاهتمام بالخدم والأرقاء، فعن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه".
ومن مظاهر الرحمة بهم كذلك ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاءه به وقد ذهب حرّه ودخانه، فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام قليلاً، فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين" رواه مسلم رحمه الله. ولم ينس النبي صلى الله عليه وسلم حق اليتامى والأرامل، فحثّ صلى الله عليه وسلم الناس على كفالة اليتامى بقوله: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" -وأشار بالسبابة والوسطى-، وجعل الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل، واعتبر وجود الضعفاء في الأمة والعطف عليهم سبباً من أسباب النصر على الأعداء، فقد قال صلى الله عليه وسلّم: "أبغوني الضعفاء؛ فإنما تنصرون وتُرزقون بضعفائكم". رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجـة رحمهم الله.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم
جاءت الكثير من النصوص النبوية تحثّ الناس على الرحمة بالبهائم والرفق بها، فمن ذلك ما رواه مسلم رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته".
فالأمر النبوي في الحديث واضح في الحث على إراحة الذبيحة حتى لا يطول عذابها، إنها الرحمة بالحيوانات تتجلى في أبهى صورها، فالإسلام دين الرحمة، ودين الرأفة، حتى إنه دخل مرة بستاناً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جَمَل، فلما رأى الجملُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليه حتى سكن، فقال صلى الله عليه وسلم: "لمن هذا الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكا لي أنك تجيعه وتتعبه".
رحمته صلى الله عليه وسلم بالجمادات
تروي كتب السير حادثة عجيبة تدل على ذلك، ألا وهي حادثة حنين الجذع، والمقصود به ذلك الجذع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستند إليه عندما يقف في الناس خطيباً في مسجده، وكان قد اتّخذه بعد أن شقّ عليه طول القيام، ثم ما لبث أن صُنع له منبر، فتحول إليه وترك ذلك الجذع، فحنّ الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمع الصحابة رضي الله عنهم له صوتاً كصوت البعير، فأسرع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن، ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم: "لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة" رواه الإمام أحمد رحمه الله.
لقد امتدّت رحمته صلى الله عليه وسلم حتى شملت هذا الجذع، والذي حنّ شوقا إلى سماع الذكر، وألماً من فراق النبي صلى الله عليه وسلم.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالأعداء حرباً وسلماً
على الرغم من تعدد أشكال الأذى الذي ذاقه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الكفار في العهد المكي، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثل الأعلى في التعامل معهم، وليس أدلّ على ذلك من قصة إسلام الصحابي الجليل ثمامة بن أثال رضي الله عنه لما أسره المسلمون وأتوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فربطوه بسارية من سواري المسجد، ومكث على ذلك الحال ثلاثة أيام وهو يرى المجتمع المسلم عن قرب، حتى دخل الإيمان قلبه، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاقه، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي"، وصدق الله إذا قال: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)( سورة فصلت، الآية: 34)، وسرعان ما تغير حال ثمامة رضي الله عنه، فانطلق إلى قريش يهددها بقطع طريق تجارتهم، وصار درعاً يدافع عن الإسلام والمسلمين.
وتتجلّى رحمته صلى الله عليه وسلم أيضاً في ذلك الموقف العظيم، يوم فتح مكة وتمكين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حينما أعلنها صريحةً واضحةً: "اليوم يوم المرحمة"، وكان محقّاً فيما قاله فقد أعلن عفوه العام عن قريش التي لم تدّخر وسعاً في إلحاق الأذى بالمسلمين، وكان ذلك تفضّلاً منه ورحمةً.