أهلا وسهلا بك ضيفنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، وفي حال رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
أمثلة على فن المقال في الأدب العربي القديم تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين (23)
سبق أن قلنا: إن من نصوص أدبنا القديم التي يمكن أن تدخل بكل سهولة تحت بند "المقالة" نصيحةَ الأم الجاهلية لابنتها، وهي تجهزها لزفافها إلى أحد الملوك، تلك النصيحة التي وردت في عدد من كتب الأدب القديم، وهي تجري على النحو التالي: "لو تُرِكَتِ الوصيةُ لحسن أدب أو لكرم نسب لتركتها لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، يا بنيَّة، إنك قد خلفت العشَّ الذي فيه دَرَجْتِ، والموضع الذي منه خرجت، إلى وَكْر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، كوني لزوجك أمَةً يكن لك عبدًا، واحفظي عني خصالاً عشْرًا، تكن لك دركًا وذكرًا:
أما الأولى والثانية: فحُسن الصحابة بالقناعة، وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة؛ ففي حسن الصحابة راحة القلب، وفي جميل المعاشرة رضا الرب.
والثالثة والرابعة: التفقد لموضع عينه، والتعاهد لموضع أنفه، فلا تقع عينُه منك على قبيح، ولا يجد أنفُه منك خبيث ريح، واعلمي أن الكحل أحسنُ الحسن الموجود، وأن الماء أطيب الطيب الموجود.
والخامسة والسادسة: فالحفظ لماله، والإرعاء على حشمه وعياله، واعلمي أن أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم والعيال حسن التدبير.
والتاسعة والعاشرة: لا تفشين له سرًّا، ولا تعصين له أمرًا، فإنك إذا أفشيت له سرًّا لم تأمني غدره، وإن عصيتِ أمره أوغرتِ صدره"، وهي مقالة يمكن أن تحتل بكل اقتدار وجدارة عمودًا في مجلة "حواء"، أو "نصف الدنيا"، أو في صفحة "المرأة والطفل" في "أهرام" الجمعة.
أما النص التالي فهو في بعض مناقب الذباب، إي والله: بعض مناقب الذباب! وهو الجاحظ العجيب الذي ليس له ضريب، وقد نقلناه من كتاب "الحيوان": "وفي الذباب خصلتان من الخصال المحمودة: أما إحداهما فقرب الحيلة لصرف أذاها ودفع مكروهها، فمن أراد إخراجها من البيت فليس بينه وبين أن يكون البيت على المقدار الأول من الضياء والكِنِّ بعد إخراجها مع السلامة من التأذِّي بالذبان إلا أن يغلق الباب؛ فإنهن يتبادرن إلى الخروج، ويتسابقن في طلب الضوء والهرب من الظلمة، فإذا أُرْخِيَ الستر وفُتِح الباب عاد الضوء وسلم أهلُه من مكروه الذباب.
فإن كان في الباب شق، وإلا جافى المغلق أحد البابين عن صاحبه ولم يُطبقْه عليه إطباقًا، وربما خرجن من الفتح الذي يكون بين أسفل الباب والعتبة، والحيلة في إخراجها والسلامة من أذاها يسيرة، وليس كذلك البعوض؛ لأن البعوض إنما يشتد أذاه ويقوى سلطانه ويشتدُّ كلَبُه في الظلمة، كما يقوى سلطان الذبان في الضياء، وليس يمكن الناس أن يدخلوا منازلهم من الضياء ما يمنع عمل البعوض؛ لأن ذلك لا يكون إلا بإدخال الشمس، والبعوض لا يكون إلا في الصيف، وشمس الصيف لا صبر عليها، وليس في الأرض ضياءٌ انفصل من الشمس إلا ومعه نصيبه من الحَر، وقد يفارق الحر الضياء في بعض المواضع، والضياء لا يفارق الحر في مكان من الأماكن، فإمكان الحيلة في الذباب يسير، وفي البعوض عسير، والفضيلة الأخرى أنه لولا أن الذبابة تأكل البعوضة وتطلبها وتلتمسها على وجوه حيطان البيوت وفي الزوايا لما كان لأهلها فيها قرار.
وذكر محمد بن الجهم فيما خبرني عنه بعض الثقات أنه قال لهم ذات يوم: هل تعرفون الحكمة التي استفدناها في الذباب؟ قالوا: لا، قال: بلى، إنها تأكل البعوض وتَصيدِه وتلقطه وتفنيه؛ وذلك أني كنت أريد القائلة، فأمرت بإخراج الذباب وطرح الستر وإغلاق الباب قبل ذلك بساعة، فإذا خرجن حصل في البيت البعوض في سلطان البعوض وموضع قوته، فكنت أدخل إلى القائلة فيأكلني البعوض أكلاً شديدًا، فأتيت ذات يومٍ المنزلَ في وقت القائلة، فإذا ذلك البيت مفتوح، والستر مرفوع، وقد كان الغلمان أغفلوا ذلك في يومهم، فلما اضطجعت للقائلة لم أجد من البعوض شيئًا، وقد كان غضبي اشتد على الغلمان، فنمت في عافية، فلما كان من الغد عادوا إلى إغلاق الباب وإخراج الذباب، فدخلت ألتمس القائلة، فإذا البعوض كثير، ثم أغفلوا إغلاق الباب يومًا آخر، فلما رأيته مفتوحًا شتمتهم، فلما صرت إلى القائلة لم أجد بعوضةً واحدةً، فقلت في نفسي عند ذلك: أراني قد نمت في يومي الإغفال والتضييع، وامتنع مني النوم في أيام التحفظ والاحتراس، فلِمَ لا أجرب ترك إغلاق الباب في يومي هذا؟ فإن نمت ثلاثة أيام لا ألقى من البعوض أذىً مع فتح الباب علمت أن الصواب في الجمع بين الذبان وبين البعوض، فإن الذبان هي التي تفنيه، وأن صلاح أمرنا في تقريب ما كنا نباعد، ففعلت ذلك، فإذا الأمر قد تم، فصرنا إذا أردنا إخراج الذبان أخرجناها بأيسر حيلة، وإذا أردنا إفناء البعوض أفنيناها على أيدي الذبان بأيسر حيلة، فهاتان خصلتان من مناقب الذبان"، وهذا النص - كما يلاحظ القارئ - مقال علمي يرينا كيف يتقدم العلم، وتتم بعض اكتشافاته بالمصادفة المحضة التي يتلوها افتراض تفسير معين يتحقق منه المرءُ بإجراء التجارب وتكرارها إيجابًا وسلبًا إلى أن يطمئن لصحة ما افترضه أو لا، ورغم أن المقال علمي، فقد كُتب بأسلوب الجاحظ الأدبي المتميز، فهو إذًا من المقالات العلمية المتأدبة.
وبعد أن انتهينا من هذا المقال البديع للجاحظ نحب أن نقدم للقارئ هذا النص لابن الجوزي، ولسوف يرى بنفسه أن من الممكن جدًّا نشرَه الآن في أية صحيفة أو مجلة؛ بوصفه مقالاً في أهمية الاستعانة على مشاق الحياة بشيء من الفكاهة والهزل، ويستند الكاتب في احتجاجه على أهمية الفكاهة إلى أن العلماء والأفاضل لم يكونوا يتحرجون من ذلك، وقد أخذناه من مقدمة كتاب ابن الجوزي: "أخبار الحمقى والمغفلين": "وما زال العلماء والأفاضل يُعجبهم المُلَح، ويهشون لها؛ لأنها تجم النفس، وتريح القلب من كدِّ الفكر، وقد كان شُعبةُ يحدث، فإذا رأى المزيد النحوي قال: إنه أبو زيد البسيط: استعجمت دارُ نعمٍ ما تكلمنا والدار لو كلمتنا ذاتُ أخبار
وقد روينا عن ابن عائشة أحاديث ملاحًا في بعضها رفث، وإن رجلاً قال له: أيأتي من مثلك هذا؟ فقال له: ويحك! أما ترى أسانيدها؟ ما أحد ممن رويت عنه إلا هو أفضل من جميع أهل زماننا، ولكنكم ممن قبح باطنه فرأى ظاهره، وإن باطن القوم فوق ظاهرهم، ووصف رجل من النساك عند عبيدالله بن عائشة فقالوا: هو جد كله، فقال: لقد أضاق على نفسه المرعى، وقصر طول النهى، ولو فككها بالانتقال من حال إلى حال لنفَّس عنها ضيق العقدة، وراجع الجد بنشاط وحدة، وعن الأصمعي قال: سمعت الرشيد يقول: النوادر تشحذ الأذهان، وتفتق الآذان، وعن حماد بن سلمة أنه كان يقول: لا يحب المُلَح إلا ذكران الرجال، ولا يكرهها إلا مؤنَّثُهم، وعن الأصمعي قال: أنشدت محمد بن عمران التميمي قاضي المدينة، وما رأيت في القضاة أعقل منه: يا أيها السائلُ عن منزلي نزلت في الخان على نفسي يغدو عليَّ الخبز من خابز لا يقبل الرهن ولا ينسي آكل من كيسي ومن كسوتي حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: اكتبه لي، قلت: أصلحك الله، إنما يكتب هذا الأحداث.
فقال: ويحك! اكتبه؛ فإن الأشراف يُعجبهم الملاحة.
فقد بان مما ذكرنا أن نفوس العلماء تسرح في مباح اللهو الذي يكسبها نشاطًا للجد، فكأنها من الجد لم تزل، قال أبو فراس: أروِّح القلبَ ببعض الهزل تجاهلاً مني بغير جهل أمزح فيه مَزْح أهل الفضل والمزح أحيانًا جلاء العقل
فإن قال قائل: ذكر حكايات الحمقى والمغفلين يوجب الضحك، وقد رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها أبعد من الثريا))، فالجواب أنه محمول على أنه يضحكهم بالكذب، وقد روي هذا في الحديث مفسرًا: ((ويل للذي يحدث الناس فيكذب ليُضحِكَ الناس))، وقد يجوز للإنسان أن يقصد إضحاكَ الشخص في بعض الأوقات؛ ففي أفراد مسلم من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: لأكلمن رسولَ الله لعله يضحك، قال: قلت: "لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقةَ فوجأت عنقها، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم-".
وإنما يكره للرجل أن يجعل عادته إضحاك الناس؛ لأن الضحك لا يُذَمُّ قليلُه؛ فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى تبدوَ نواجذه، وإنه يكره كثيره؛ لما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: "((كثرة الضحك تميت القلب"))،والارتياح إلى مثل هذه الأشياء في بعض الأوقات كالملح في القدر".
ولابن العماد الفقهسي كتاب طريف وجد مفيد اسمه "آداب الأكل" اجتزأنا منه النص التالي الذي يصلح تمامًا أن يكون مقالاً في "إيتيكيت المآدب" بلغة العصر إن جازت الاستعانة بالرطانة، وإلا ففي كلمة "الآداب" غنًى عن "الإيتيكيت"، علاوةً على أنها أجمل وأوقع، قال الفقهسي يحذِّر الآكل من بعض أنواع السلوك المنفر: "ويحترز أشياء تطرأ عليه حال الأكل كالسعال ونحوه، فينبغي له عند السعال أن يحوِّلَ وجهه عن الطعام أو يبعده عنه، أو يجعل شيئًا على فيه لئلا يخرج منه بصاق فيقع في الطعام، ومنها ينبغي للآكل أو للحاضر ألا يتنخم بحضرة الآكلين، ولا يبصق ولا يتمخط، ولا يذكر كل ما فيه ذكر شيء مستقذر، ومنها ينبغي ألا يبادر إلى قطع ما يقدم للضيفان من اللحم إذا أتي به صحيحًا كالخروف ونحوه إلا إذا أذنوا له في ذلك، ومنها ألا يأكل قبل القوم، فإن فاعل ذلك ينسب إلى فرط الجوع والشره، قال طرفة: وإن مُدَّتِ الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم؛ إذ أجشعُ القوم أعجل
ومنها ألا يطاطئ رأسه على الإناء حالة الأكل، ومنها ألا ينفض يديه من الطعام مخافة أن يقع منها شيء على ثوب الجليس، أو في الطعام، فيورث قنافةً وتقذرًا عن أكل الباقي، ومنها إذا كان المأكول بطيخًا وضع على طبق أو غيره فينبغي له ألا يخلط ما أكله من القشر بما لم يؤكل؛ فإنه يورث قنافةً وألا يرمي بالقشر؛ لأن في رميه كلفةً في جمعه ليطرح في المزبلة، وربما نالت القشور رأس الجالسين فصدمته أو تقاطر منها شيء في وجهه حالة الرمي، ومنها إذا أكل تمرًا أو برقوقًا ينبغي بألا يخلط نوى ما أكل بما لم يؤكل، وفي معناه السرمان وسائر ما له قشر كالقصب ونحوه. وإن أتتك سنانيرُ يَصِحْنَ فلا ترمِ لها لقمةً تسلَمْ من الثقل
ليس للآكل أن يتصرف في الطعام بغير الأكل، فيحرم عليه إطعام الهرة والسنور والقط، وجمعه سنانير، وله أسماء: سِنَّوْر، وقط، وهر، وضبون، وحنظل، ولا يجوز لمن حضر الطعام أن يطعم من دونه فإن استووا في الطعام جاز أن يلقم الأضياف بعضهم بعضًا. وإن أتوك بأنواع الطعام فمل إلى اختيارك بالمجعول بالعسل فسنة المصطفى حب الحلاوة لا تبغِ العدول لأكل الثُّوم والبصل ووافق القوم حتى يكتفوا شبعًا ولا تقم قبلهم يفضي إلى خجل وكن لهم أبدًا نعم الجليس وكن بئس الرفيق رفيقًا غن من دغل وآنِسِ القومَ بالتحديث في أكل ولا تكن ساكتًا كالبهم والهمَل ولا تكن قائمًا عن قصعة أبدًا قبل الفراغ، وكن عن ذاك في شغل ففي القيام له قطعٌ للذته فلا تكن قاطعًا ندعوك بالجعل والعَقْ يديك ولا تمسح بخبزهمُ ولا السماط، وكن عن ذاك في شغل
ترى هل تجد من فرق بين هذه النصوص والنص التالي مثلاً لإبراهيم المازني؟ وهو مقال بعنوان "الفروسية": "دعينا أنا وطائفة من الإخوان إلى قضاء يومين في ضيعة أحدهم، وكانت قريبةً من إحدى الضواحي، فركبنا القطار إلى... وهناك وجدنا طائفةً شتى من الخيل والبغال والحمير، فتوهمت في أول الأمر أن هناك سوقًا للدواب أو مَعْرِضًا لها، ثم علمت أنها لركوبنا، فاخترت من بينها حمارًا صغيرًا، وهممت بامتطائه، ولكن صاحب الضيعة وداعينا عز عليه أن يركب المازنيُّ حمارًا، وجاءني بجواد أصيل، وأقسم علي لأركبنه، فاستحييت أن أقول له: إني أخاف ركوبه، وإنه لا عهد لي بالخيل، ودنوت من بعض الخدم وهمست في أذنه هذا السؤال: قل لي: كيف تركب هذا الحصان؟
فتأملني مليًّا، ثم قال وعلى فمه طيف ابتسامة: على ذيله!
قلت: على ماذا؟
قال: على ذيله، وأشاح عني وجهه، فذهبت إلى الجواد وأدرت عيني في ذيله، ثم هززت رأسي، وعدت إلى الخادم أسأله: ألا تظن يا صاحبي أن الأحزم أن أمتطيه قريبًا من العنق؛ لأستطيع عند الحاجة أن أطوقه بذراعي؟ فلم يَزِدِ الرجل على أن قال: ربما! وانصرف عني إلى سواي، وكنا جميعًا في هرج ومرج، نصيح ونضحك، وكان لا بد أن أفعل شيئًا، فناديت مضيفنا، وقلت له: أريد سلَّمًا.
قال في دهشة: سلَّمًا! ما حاجتك إليه؟
قلت: حاجتي إليه أني أريد أن أصعد فوق ظهر هذا المجلي يا صاحبي.
فضحك وقال: أنا أساعدك! ودفعني على ظهر الجواد دفعةً خُيِّل إلي أنها ستلقيني على الأرض من الناحية الأخرى.
وسرنا مسافةً على مهل، ثم وخز أحدنا دابته فمضت تعدو، واستحث آخرُ مطيته وانطلق بها وراءه، واقترب مني ثالث وأهوى على جوادي بعصًا معه، فوثب الجواد وراح يسابق الريح، أو هكذا خُيِّل إلي، وأنا أعلو وأهبط فوقه، ثم أحسست أن أمعائي ستتقطع، وأتلمس بيدي شيئًا أمسكه وأتعلق به، فيفلت من قبضتي كل ما تصل إليه، فارتميت على عنقه وطوقته، وجعلت أنادي من حولي وأناشدهم الذمة والضمير والمروءة أن يوقفوا هذا الشيطان، وأدرك أحد إخواني العطف علي فصاح بي:
ولكن كيف نوقفه ونحن راكبون؟ فغاظني منه هذا البَلَهُ، ولم يفتني ما في الموقف من فكاهة على الرغم من الألم الذي أعانيه، ومما أتوقعه إذا ظل الجواد يركض بي، فقلت: يا أبله، انزل واقبض على ذيل حصاني وشده.
وكان أحد الخدم قد أدركني، وأمسك باللجام ورد الجواد، فما أسرع ما انحدرت عنه، وكأنما أعجبتني جلستي على الأرض، فأخرجت سيجارةً وأشعلتها وذهبت أدخن، وجاءني مضيفنا على أَتَانِه، فسألني:
أتنوي أن تقعد هنا إلى الأبد؟ فأغضيت على سؤاله، وقلت: إن بي حاجةً إلى الشعور بثبات الأرض بعد كل هذا التقلقل وتلك الزعزعة! قال: ولكنك لا تستطيع أن تظل جالسًا هكذا، إن أمامنا سَيْرَ ساعة، فقلت: سألحق بكم إذًا، أو أرجع إذا كان لا بد من ركوب هذا الزلزال! قال: ولكن لا يليق أن تركب حمارًا! قلت وقد صار في وسعي أن أضحك: في وسعك أن تعلق ورقةً تكتب فيها أنه جواد مطهم، قال: لا تمزح، قم واركب حماري، قلت: إذا كان الحمار عاليًا فما الفرق بينه وبين الجواد؟
قال بلهجة اليائس أو المنتقم: إذًا خذ هذا، وأشار إلى جحش قميء مهين يركبه خادم، لا سرج عليه ولا لجام له، فقمت إليه وامتطيته بوثبة واحدة وبلا مُعين، واعترضتنا قناة عريضة عليها ألواح مثبتة تقوم مقام الجسر، وبين الألواح والماء تحتها متر على الأقل، فلما توسطها الجحش بدا له أن يقف، وراقه منظر الماء فأجال فيه عينيه برهةً ثم خطا إلى حافَةِ الجسر، ولم يكنْ له حاجز، ومد عنقه إلى الماء، فظننت أنه قصير النظر وأنه يفعل ذلك ليكون أقدر على رؤية خياله في الماء واجتلاء طلعته البهية في صقاله، ولكنهم قالوا لي: إنه يريد أن يشرب، فنزلت عنه، وقلت له: يا عزيزي، إن من دواعي أسفي أني مضطر أن أتركك إلى الماء وحدك، فإن ثيابي يفسدها الماء، وهي غالية إذا كانت حياتي رخيصةً.
ولكنه بعد أن فكر قليلاً غيَّر رأيه، إما لأن الصورة التي طالعته في الماء كانت مضطربةً مشوهةً، وعجز الماء عن أداء ما فيها من جمال وروعة، أو لاعتبارات حمارية أخرى لم يكاشفني بها، فأدار وجهه ومضى غير متلفت إلي، غير أني لحقت به بعد أن اجتاز الجسر، وقلت له: تعالَ، لا تهرب مني يا صاحبي، وكنت على ظهره قبل أن يتمكن من الاعتراض أو الاحتجاج أو الإفلات.
ويطول بنا الكلام إذا أردت أن أصف كل ما أمتعني به من الفكاهات العلمية، فقد كان فيه عناد وصلف، وكان يأبى أن يتوسط الطريق، ولا يرضيه إلا أن يحك جنبه في كل ما يلقاه من شجرة أو عربة أو حائط.
وربما وقف وغرس رجليه في الأرض ونام، وتعودت منه ذلك، وفطنت إلى أنه ذو مزاج مستقل، فكنت أتركه واقفًا حتى ينتبه من هذه الإغفاءات، أو يعود من سبحات عقله السقراطية فيستأنف السير، وحسبي وحسب القراء أن أقول لهم: إني أسفت على فراقه لما انتهت الرحلة، وتمنيت لو أن صحبتنا كانت أطول". منقول