الحث على حسن ختام شهر رمضان
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله -تعالى- وزكُّوا أنفسكم بالإقبال على طاعته، والاشتِغال بذكره، خُصوصًا في هذه الأيَّام المعظمة، والليالي المبارَكة التي جعَلَها الله مَوسِمًا يتَّجِر فيه أولو الألباب؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29 - 30]، فشَمِّروا فيها إلى طاعة الله، وجدوا فيها وابتغوا فضلَ الله، واقتَفُوا فيها آثارَ نبيِّكم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه من صالِحي هذه الأمَّة، ويحيون الليل بالقيام داعين مُتضرِّعين، تائبين صادقين، يَطلُبون الدرجات العُلا متنافسين؛ ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16 - 17]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].
فأنتم - يا عباد الله - في شهر الجهاد للنُّفوس على فلاحها، وتطهيرها من آثامها؛ ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 6 - 7].
وأنتم في شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة؛ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [العنكبوت: 58 - 59].
فالعاقل الرشيد المُوفَّق مَن انتَهَز مواسم الخيرات، فشغلها بجليل الطاعات، وعظيم القُربات، واستَبدَل بالسيِّئات الحسنات، واستَعاض عن قَبِيح عمله بالباقيات الصالحات. والشقي مَن فرَّط في ماضيه، وتمادَى في غيِّه وأمانيه، ولم يتَّجر مع ربِّه في مواسم الخير التي يسوقُها إليه، ولم يَتدارَك بقيَّة عمره بالتوبة النَّصُوح والعمل الصالح الذي يُزكِّيه، ومن عذاب الله يُنجِيه، فوا حسرَتَه يومَ القُدُوم، على الحي القيُّوم؛ ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].
أيها المسلمون:
كما تعلَمون فإنَّ شهرَكم قد عزَم على الزَّوال، وآذَن بالارتِحال، فلم يبقَ منه إلاَّ بضع ليال، وهكذا الأيَّام تفنى، والأعمار تُطوَى، والبقاء لله العظيم ذي العزَّة والجلال، فاغتَنِموا بقيَّة شهركم بصالح الأعمال، قبل أنْ يتحقَّق منه الارتِحال، أو تحضُركم الآجال، فيُحال بينكم وبين صالح الأعمال، فجدُّوا في اغتنام بقيَّة هذا الشهر العظيم، والموسم الكريم، فيما يورثكم الله به جنَّات النعيم، وينجيكم به من عَذاب الجحيم، فإنَّ الأعمال بالخواتيم.
أيُّها المسلمون:
تذكَّروا قولَ نبيِّكم -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))، وأنَّ ليلة القدر هذه قد أخفاها الله -تعالى- فلم يُعيِّنها لنا أي ليلة من تلك العشر، وربما كانت آخِر ليلة من الشَّهر، وإنما أخفاها - سبحانه - ليتبيَّن الراغب فيها المحتسب في طلبها من العباد، ولتكثر أعمالهم الصالحة فيجدوا ما يسرُّهم يوم المعاد، فلن يَظفَر العبد بليلة القدر إلاَّ إذا طلَبَها في جميع ليالي العشر، فأرُوا الله من أنفُسِكم خيرًا، وادَّخِروا صالح الأعمال عنده ذُخرًا.
أيُّها المسلمون:
ولقد كان من هدي نبيِّكم -صلى الله عليه وسلم- الاجتهادُ في تلك العشر ما لا يجتَهِد في غيرها من الشهر، فخُذُوا بسنَّته، تفوزوا برفقته؛ ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69 - 70].
عباد الله:
الاعتِكافُ - في هذه العشر أو بعضها - سُنَّة مأثورةٌ، وقُربة مَبرورة، فينبَغِي لِمَن يسَّرَها الله له فمكَّنَه منها - دون تفريطٍ في ضيعةٍ، أو تقصيرٍ في فريضة - أنْ يُحيِيها ليكون ممَّن سَنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فله أجرُها وأجرُ مَن عمل بها من بعده، وليَفُوز بالأجر العظيم في هذا الموسم الكريم، فإنَّ إحياء تِلكُم السنَّة أَوْلَى من العمرة - وفي كلٍّ خير - فإنَّ نبيَّكم -صلى الله عليه وسلم- لم يعتَمِر في رمضان - وإنْ كان قد رغَّب في العمرة - وقد اعتَكَف هذه العشر حتى لقي ربَّه، واعتَكَف أزواجُه وأصحابُه معه وبعدَه.
ولم تكن العمرة في رمضان في زمانهم مشهورة شهرتها اليوم، وهم أفقَهُ هذه الأمَّة، وأحرصها على الخير وإحياء السنَّة، فاتَّقوا الله - عبادَ الله - وخُذُوا بالسنن على وجه الاحتِساب والإحسان، لا على وجه مُجارَاة أهل الزمان.
أيها المؤمنون:
وممَّا شرع الله لكم ختام هذا الشهر صدقة الفطر؛ لتكون آيةً على الشُّكر، وسببًا في تَكفِير الإثم والوزر، وتحصيل عظيم الأجر، وطعمة للمساكين، ومُواساة لفُقَراء المسلمين، وهي زكاة بدن تَلزَم كلَّ مسلم يفضل عن قُوتِه وقُوت مَن تَلزَمه نفقتهم صاع من طعام؛ ولذا فرَضَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الكبير والصغير، والذَّكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين، وخَصَّها بالقُوت؛ فإنَّه هو الذي تحصل به المواساة، فتخرج من قوت البلد، وإنْ كان من الأنواع المنصوصة فهو أفضل.
ففي الصحيح عن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: "كُنَّا نعطيها - يعني: صدَقة الفطر - في زمان النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من الزبيب"، وفي رواية عنه في الصحيح قال: "وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر".
فالأفضل الاقتِصار على هذه الأصناف المذكورة في الحديث ما دامَتْ موجودةً، ويُوجَد مَن يَقبَلها ليَقتات بها، فيخرج أطيَبَها وأنفَعَها للفُقَراء، فإنْ لم تُوجَد هذه الأصناف أو لم يُوجَد مَن يَقبَلها، فيخرج من بقيَّة أقوات البلد سواها، فإنَّ المقصود مواساة الفقراء وسد حاجة المساكين يوم العيد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اغنوهم في هذا اليوم عن الطَّواف))، ولكن تذكَّروا قولَ الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92].
أيها المسلمون:
والمقدار الواجب صاع، وهو أربع حفنات بكفَّي الرجل المعتَدِل خِلقة اليدين من البر الجيِّد، وذلك يُساوِي حوالي كيلوين ونصف تقريبًا، وقت إخراج الزكاة بعد غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد؛ قال -تعالى-: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ [الأعلى: 14 - 15]، فقد قال أهل التفسير: إنَّ المعنى: أخرج زكاة الفطر وصلَّى صلاة العيد.
ويجوز إخراجُها قبل العيد بيومٍ أو يومين؛ لما في البخاري: كانوا - يعني: الصحابة - يُعطون - أي: زكاة الفطر للمساكين - قبل الفطر بيومٍ أو يومين.
ولا يجوز تأخيرُها عن صلاة العيد من غير عذرٍ؛ فإنَّه تأخيرٌ لها عن وقتها المشروع، فإنْ أخَّرَها عمدًا أثم ووجب قضاؤها، فلا تَسقُط بالتأخير، بل هي دينٌ في ذمَّته لا يَبرَأ منها إلاَّ بأدائها مع القدرة.
أيها المؤمنون:
وتُعطَى زكاةُ الفطر لِمَن يَقبَلها من أصناف أهل الزكاة، لكنَّ الأَوْلَى بها الفُقَراء والمساكين، ويُشرَع للمرء أنْ يُخرِج زكاة فطره في البلد الذي يُدرِكه العيد وهو فيه، وكذلك عن أهله ومَن تلزمه نفقته، لكن لو كان أقاربه في بلدٍ آخَر فقراؤها أحوَجُ إلى زكاة الفطر أو أقارب له، فرأى أنْ يوكلهم ليخرجوا زكاتهم وزكاته في بلدهم، جازَ له ذلك.
ولا بُدَّ أنْ تُعطَى زكاة الفطر لمستحقِّيها أو لوكيله، فإن لم يجدها صرَفَها لمستحقٍّ آخَر، فلا يجوز أن يودعها عند شخص ويقول: هذه لفلان، دون علم مَن أراد دفعها إليه.
واعلَموا أنَّه لا يجوز إخراج القيمة بدلاً عن الطعام؛ فإنَّ ذلك مخالفٌ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعلِه، ولما كان عليه أصحابُه من بعده؛ فإنهم كانوا يخرجونها طعامًا مع وجود القيمة، فلو كان إخراج القيمة خيرًا لسبَقُونا إليه، وقال -تعالى-: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وقال - سبحانه -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فاتَّقُوا الله أيُّها المؤمنون عند خِتام شهركم، وتقرَّبوا إلى الله -تعالى- بما شرَع لكم، ولا تتجاوَزُوا ما حَدَّه لكم، فتهدموا ما بنيتُم من خير، وتُفسِدوا ما أصلَحتُم من عمل، وتُبطِلوا ما حصَّلتم من أجر، وتذكَّروا أنَّ الآجال قَواطِع الآمال، وبَواتِر الأعمال، واستَحضِروا سُرعَة الوقوف بين يدي الكبير المُتَعال؛ ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم من كلِّ ذنب، فاستَغفِروه يَغفِر لكم إنَّه هو الغفور الرحيم.