بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين , اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم , اللهم علمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما , وأرنا الحق حقا , وارزقنا ا تباعه , وأرنا الباطل باطلا , وارزقنا اجتنابه.
مصادر المعرفة في العقيدة الإسلامية:
1- التفريق بين عالم الشهادة وعالم الغيب:
الموضوع الثاني من مواضيع العقيدة أن العالم الذي خلقه الله عز وجل يقسـم قسمين:
1- عالم غيبي.
2- وعالم مشهود.
فكل شيء يقع تحت حواسنا فهو عالم مشهود، كالمرئيات، والمسموعات، و المشمومات، وكل شيء يقع تحت حواسنا الخمس أو تدركه حواسنا فهو عالم مشهود.
لكن هناك عالماً لا تدركه حواسنا ولكننا نستطيع أن نتبيّن أثره، الكهرباء لا نستـطيع أن نـرى الكـهرباء بـالعين، لكن دوران المروحة وإضاءة المصباح أثر من آثار الكهرباء، كذلك حرارة المدفأة الكهربائية أثر من آثار الكهرباء، وكذلك المذياع والتلفاز، فالكهرباء تبدو على شكل صوت أو حرارة أو تبريد، فتقول: إن الكهرباء لا تستطيع حواسنا أن تدركها ولكننا ندرك آثارها، وما دمنا قد أدركنا آثارها فإننا نحكم بوجودها، وهناك أشياء موجودة لا تستطيع حواسنا إدراكها لكن آثارها دالة عليها, وهذا عالم آخر غابت عنا ماهيته، وظهرت لنا آثاره، فنحن نحكمُ بوجوده.
الاستشهاد بأمثلة على آثار علم الغيب:
قطعتان من الحديد بقياس واحد، وحجم واحد، ووزن ولون وتشكيل واحد، هذه العين لن تستطيع التفريق بينهما، إحداهما مشحونة بقوة مغناطيسية والثانية غير مشحونة، فإذا قربنا قطعة معدن صغيرة من القطعة المشحونة تجذبها، إذاً نحكم بوجود قوة في القطعة الأولى، ونحن بحواسنا الخمس لا نستطيع أن ندرك هذه القوة، ولكن بجذب المعدن الصغير لها, نستنتج أن في هذه القطعة قوة قطعية الثبوت ولكننا لا نستطيع بحواسنا الخمس أن ندركها، إذاً فالعالَم عالَم مشهود، وعالَم غيبي، ووجود العالم الغيبي ليس أقل من وجود العالم المشهود، بل ربما كان العام الغيبي أكثر وجوداً من العالم المشهود، فالحيوانات تتعامل مع العالم المشهود، لكن الإنسان بما أُوتي من فكر يستطيع أن يتعامل مع العالم الغيبي، وقد قال ربنا عز وجل في كتابه العزيز:
﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
(سورة البقرة الآية: 1-3)
وذلك يعني أن الشيء الذي غاب عنهم يؤمنون به إيماناً يقينياً، إذا رأيت غديراً، فالماء يدل على الغدير، والأقدام تدل على المسير، أفسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدُلاَّنِ على الحكيم الخبير ؟!.
من دلائل آثار علم ا لغيب:
1- الإيمان بالله:
الإيمان بالله هو إيمان تحقيقي وتستطيع أن تصل إلى درجة من الإيمان اليقيني بالله عز وجل:
وعن عَامِرٍ أَوْ أَبِي عَامِرٍ أَوْ أَبِي مَالِكٍ
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فِي غَيْرِ صُورَتِهِ يَحْسِبُهُ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ ثُمَّ وَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِسْلامُ فَقَالَ أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكَ لِلَّهِ وَأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ قَالَ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتُ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ مَا الإِيمَانُ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتُ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ مَا الإِحْسَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ لا تَرَاهُ فَهُوَ يَرَاكَ قَالَ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ أَحْسَنْتُ))
( أخرجه الإمام أحمد في المسند)
ولشدة يقينك بوجوده كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا الذي يجب أن نعرفه جميعاً ؛ أن الإيمان بالغيب لا يعني أن تؤمن بشيء احتمالُ وجوده قليلٌ لأن ذلك من ترهات الشياطين, فالكون كله دال عليه.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
المؤمن القوي يرى الله في كل شيء، في الفواكه، وفي كأس الماء، وفي العصفور، وفي حبة العنب، وفي جسمه، وسمعه، وفي بصره، وفي القمر، والنجوم، وفي السموات، و الأمطار، والجبال، و الصحارى، و السهول وكل شيء، وحيثما وقعت عيناه على شيء يرى الله مِن خلاله، فيقول: من صممّهُ ؟ و كوّنهُ ؟ وخلقهُ ؟ و صوّره ؟ ويتفكر الإنسان في تلك الأشياء التي حوله ليرى الله فيها، وأحياناً الإنسان يتعامى عن حقائق كثيرة.
آثار الصنعة تدل على الصانع:
معدن الرصاص من يفكر مثلاً بقيمته، وبصيغته، ومهمته، فإذا أردنا أن نثبّت حديداً بحجر فما الطريقة ؟ وإذا كان لدينا سور حجر نريد أن نضع فوقه سور حديد، فما كيفية تثبيت هذا الحديد بهذا الحجر ؟ إن الرصاص يذوب بدرجة مئة، أيْ على موقد غاز عادي نضعه فيذوب، يُصَبُّ في حفرة يوضع فيها وتدُ المعدن وبعد أن يبرد هذا المعدن فإنه من المستحيل أن تقلع السور الحديدي من الحجر ويحتاج الأمر إلى نشر الحديد بالمنشار فيما لو أُريد قلعه من مكانه، وكذلك حشوة الأسنان تستعمل من الرصاص لوجود هذه المادة الخاصة، وهذا المعدن يعاكس المعادن في هذه الخاصة, طبيب الأسنان يحاول أن يحفر في السن حفرًا جانبية، وعندما تبرد الحشوة وتتمدد وتدخل ضمن هذه الحُفَرِ، وهذا معناه أن الكون كامل، فما هذه الحكمة البالغة !.
إذاً يجب أن نفكر في كل ما يحيط بنا، والآيات التي تدور حولنا ونراها يجب أن نفكر فيها لأننا لو نظرنا إلى كل شيء لرأَيْنا الله فيه، فالمؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما لا يشعره الآخرون، وهذه ميّزة المؤمن عن غيره.
2- الروح:
هناك علم يُدعَى علماً يقينياً وهو علم استدلالي، فأنت من أثر الشيء تستنتج وجوده، فإذا رأيت مروحة تدور فهذا يقنعك بوجود الكهرباء فيها، كم بالمئة ؟ الواقع هي 100 % يقين قطعي مع أنك لم ترها، وإذا كنت تحكم بوجود القوة المغناطيسية قطعاً مع أنك لم ترها، فالروح وهي أقرب شيء لنا من العالم الغيبي.
فلو نظرت إلى ميت وزنه 73.5 كغ وقد خرجت منه الروح فلا يقل وزنه غراماً واحداً، ولكنه كان يرى بعينه، و يسمع بأذنه، ويتحرك، وينطق، ويفكر، ويفرح، ويغضب فإذا هو جثة هامدة لا يتحرك، ولا يتكلم، ولا يقنع، ولا يرضى، ولا يتألم، ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، فما الذي فَقَدَه ؟ هو الروح، هل يستطيع أحد منا أن ينكر وجود الروح ؟ فلو أنكرنا وجود الروح لأنكرنا وجودنا، ومع أن الروح موجودة بالبداهة في يقين كل منا فلا نستطيع أن نلمسها بيدنا ولا أن نراها، ولا أن نسمع صوتها ولا نشمَّها، لا صوت لها ولا رائحة ولا شكل، ومع ذلك فهي موجودة، فالعالم الغيبي الذي لا تراه عينك موجود قطعاً وجوداً حقيقياً أوله الروح، إذاً العالم عالم مشهود ندركه بحواسنا الخمس، وعالم غيبي ندركه بعقولنا.
دعوى وردها:
يقولون: إن فلاناً غيبي أي يؤمن بالغيبيات، فالملحدون والماديون والفجّار إذا أرادوا أن ينتقصوا من إنسان مؤمن قالوا عنه: غيبي مع أن الإيمان بالغيب هو إيمان بوجود الإنسان، وقد قال ديكارت كلمة: أنا أفكر فأنا موجود، استنتج حقيقة وجوده من تفكيره، فالإيمان بالغيبيات إيمان قوي، وإيمان متين، وإيمان عميق، وهذه نقطة هامة جداً.
2- طريق الإيمان بالغيبيات هو الخبر الصادق:
وهناك الإيمان بالملائكة، والجنة، والنار، واليوم الآخر، فإن الإيمان بتلك الأشياء وسيلةُ معرفتها الخبرُ الصادق فقط، فالإيمان بالله عز وجل إيمان تحقيقي، ولكن الإيمان بالملائكة إيمان تصديقي، لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عنهم، وما إلى ذلك من عوالم الغيب البعيدة عن إدراك الحواس، إذا آمنت بالله إيماناً صحيحاً وأخبرك عن الجنة, و النار, و الملائكة, و عن الجن، و عن الشياطين، فهذا هو الطريق الوحيد لمعرفة هذه الأشياء المغيبة عنا بكنها وآثارها, هناك أشياء عينها موجودة وأشياء آثارها موجودة، وهناك أشياء لا عينها ولا آثارها موجودة، وهذه الأشياء تعرفها بالخبر الصادق.
فالوحي: هو الطريق الوحيدة لتعريفنا بحقائق الأشياء الداخلة في عالم الغيب.
أقسام عالم الغيب:
1- قسم مغيب عن طريق العلم واكتشافاته يظهر:
هناك أشياء يجب أن لا نتفاجأ بها لأن في عالم الغيب أيضاً قسمين:
1 - قسم استأثر الله بعلمه.
2 - قسم يمكن أن ينتقل من عالَم الغيب إلى عالَم الشهادة.
فمَن منا يعرف وجه القمر الآخر، فلما وصل العلماء إلى سطح القمر، و هبطت المركبة على الوجه الآخر والتقطت صوراً له، فهذا المكان انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وهناك أشياء كثيرة تنتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة حسب الاكتشافات العلمية والتقدم العلمي، وهذا لا يمنع أن نفاجأ بكشفٍ من قبل من عالم الغيب، فأصبح الآن في عالم الشهود قال الله تعالى:
﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾
(سورة الحشر الآية: 22)
وقال أيضاً:
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ *عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾
(سورة الرعد الآية: 8-9)
قد يكون هناك أشياء بالنسبة إلينا من عالم الغيب، فالجن بالنسبة لنا من عالم الغيب، فقد أخبرنا الله بوجوده، أما الجن فبالنسبة لبعضهم هو مِن عالم الشهادة، أي إن هناك أشياء إذا قيست بالنسبة للإنسان فهي مِن عالم الغيب، وإذا قيست بالنسبة للجن فهي من عالم الشهود، فالعالَم الغيبي بعضه يمكن أن يصبح من عالم الشهود، وبعضه مما استأثر الله بعلمه وهو ما سيكون، أما الكائن فهو معروف.
2- قسم لا يعلمه إلا الله:
وأمَّا ما سيكون فهو من العلم الذي لا يعلمه إلا الله، قال تعالى:
﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾
(سورة النمل الآية: 65)
أي مَن أتى كاهناً فصدقه فقد كفر، لأن الكاهن حشر نفسه في مجال الله سبحانه وتعالى الذي استأثر به عالم الغيب بمعنى ما سيكون وهو ممّا لا يعلمه إلا الله، فعَنْ صَفِيَّةَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً))
( أخرجه مسلم عن صفية زوجة النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح)
إذاً عالم الغيب بعضه يمكن أن ينتقل إلى عالم الشهود، وبعضه الآخر مما استأثر الله بعلمه ولا يُطلِّع عليه أحداً إلا مَن اختارهم مِن بعض أنبيائه.
والحمد لله رب العالمين منقول