صحة البيئة واقتصاديات البيئة
د زيد محمد الرماني
لاشك في أنّ الاتجاه العام الذي برز منذ بضع سنوات في البلدان المتقدمة والصناعية للاهتمام بحماية البيئة من التلوث والتشويه أخذ يتعاظم يومًا بعد يوم، وسنة بعد سنة؛ حتى أصبح للبيئة في هذه البلدان أنصار يتزايد عددهم باستمرار، وقد تفاقمت مشكلة البيئة بازدياد السكان والتعقيدات الحياتية التي بدأت تظهر نتيجة للتطور العلمي والحياتي في المجتمعات في أوائل القرن الماضي؛ مما حدا ببعض الرجال إلى قيادة حملات توعية اجتماعية صحية بين الشعوب والحكومات، وقد اقترن نمو المدن والمراكز الدينية والتجارية عبر التاريخ بإنشاء مشروعات؛ للتزود بالمياه.
وللتخلص منها ما زالت آثارها ماثلة حتى اليوم، وصحة البيئة مسألة تشغل المجتمعات الإنسانية منذ فجر التاريخ، فهي تاريخ وعلم وأدب، ومعظم الأديان السماوية أوْلَتْهَا عناية خاصة، وعلم الاجتماع شملها أيضًا في دراساته، ودراستها ضرورية لسمو الخلق البشري، فحفظ الصحة عنوانه مياه نظيفة، وهواء نقي، وتربة صالحة، وهو دعامة المجتمعات وسبيلها نحو التقدم والرقي والعطاء، ومن دونه تزول مقومات وجود المدينة والحضارة، يقول ستوبارت: إنَّ أصدق عبارة للدلالة على حضارة المجتمعات وثقافتها هي حُسن حفظ الصحة؛ فهي تتمشَّى مع رُقِي الشعور والنظام والعادات.
والاستهلاك المنزلي اليومي للفرد مثلاً يتأثر بعوامل عديدة منها:
أحوال الطقس والمستوى المعيشي والطريقة المعتمدة في إمداد المياه، ففي المناطق الحارَّة مثلاً يميل استهلاك الفرد للارتفاع بينما يميل في المناطق الباردة بصورة عامة إلى الانخفاض، والاستهلاك أيضًا يتزايد في المجتمعات ذات المستوى المعيشي المرتفع، وينخفض بانخفاضه كل هذه العوامل.
تتأثر بطريقة العيش التي تسود أفراد هذه المجتمعات، ففي المجتمعات الغنية تعمّ المساكن الواسعة ذات الحدائق الخاصة، بينما تسود في المجتمعات الفقيرة المساكن الشعبية المتلاصقة في أبنية مرتفعة ذات مساحة ضيِّقة.
يقول سمير الخوري في كتابه "صحة البيئة": تدل المؤشرات على أن تحديد الحد الأقصى اليومي لاستهلاك المياه للفرد الواحد تأمينًا للحاجات المنزلية والعامة يختلف في كل بلد عنه في بلد آخر، ولكنه وبصورة عامة يتزايد في البلاد الغنية عنه في البلاد الفقيرة، وكذلك في البلاد الحارة عنه في البلاد الباردة، ويتأثر تركيب النفايات بأحوال الطقس ومستوى المعيشة، ونوع الغذاء، لذلك فالفارق بين الحد الأدنى والحد الأقصى لكثافتها كبير، ويساوي المعدل اليومي لكمية النفايات المنزلية نصف كيلو غرام للشخص تقريبًا؛ مما يجعل المعدل الإجمالي لكامل النفايات كيلو غرامًا واحدًا تقريبًا للشخص كل يوم، وينتج عن ذلك متر مكعب للشخص في السنة.
يقول سمير الخوري: يستهلك تصريف النفايات بصورة عامة نفقات تبلغ أضعاف النفقات الأخرى المرتبطة بصحة البيئة، ويستهلك القسم الأكبر من هذه النفقات عُمَّال التنظيفات الذين يعنون بخزن النفايات ونقلها إلى مكان التصريف النهائي، وبسبب التوسع المستمر في المناطق السكنية، وقلة المساحات الكافية للمقالب التصريفية، وازدياد كميات النفايات تتفاقم حِدة هذه المشكلة، ويتضاعف التلويث الناتج عنها؛ لذا فمن الضروري أن تعالج قضية تصريف النفايات على صعيد التجمعات السكنية الكبيرة التي قد تتسع لتشمل الوطن بكامله؛ ليتاح تنظيم هذا الأمر بطريقة سليمة تقلل من الأخطار المذكورة وتحصرها في أدنى حد ممكن.
ومن المؤسف أن الثقافة البيئية محدودة بين المواطنين، وإن توفرت لبعض أفراد مجتمعنا، ففقدان الوعي الاجتماعي يجعلها غير ذات جدوى أو محدودة الفائدة، فالمصلحة الشخصية تأتي غالبًا في المقدمة وعلى حساب المصلحة العامة، فالمزارع الذي ينتظر بفارغ الصبر المواسم الزراعية؛ لتحصيل دخلٍ يؤمن له حاجاته، يرى نفسه مضطرًّا للِّجوء إلى استعمال المياه الملوثة عندما لا تتوافر له مصادر أخرى من المياه النظيفة، ضاربًا بعرض الحائط كل الاعتبارات الأخرى.
إنّ صحة المواطن في البلاد الراقية تستقطب اهتمامات الدولة؛ فتحظى بقسط كبير من عنايتها، كما تخصصّ لها اعتمادات كبيرة من الميزانية وهذا الاتجاه طبيعي؛ فعلى سلامة الصحة تنشأ حضارة المجتمعات، وترتكز قوة الدول، وبفقدانها تتردى الأوضاع، وتفقد الأمة إحدى أهم مقوماتها.
م/ن