السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
هذه درة من نفائس الإمام :ابن قيم الجوزية - رحمه الله - ؛
هي لمن يريد الحق والخير مطية ؛شريطة أن يخلص لله وحده النية ؛ ويكف عن عباد الرحمن الأذية ؛
سواء أ ذية الجنان ؛ أو اللسان ؛ أو الأركان !!!
فهل نستدرك مافات ؛ قبل حلول الممات ؛
وحينها لا ولن تجدي الأمنيات؟؟؟ .
قال رحمه الله
" قال ابن مسعود – رضي الله عنه - :
هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر
- علامات مرض القلب :
اعلم أن مرض القلب أن يتعذر عليه ما خٌلق له من
معرفة الله ومحبته والشوق
إلي لقائه والإنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوة.
فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئاً
ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها
ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به
فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين.
بل إذا كان القلب خالياً عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات
عذاباً له ولابد فيصير
معذباً بنفس ما كان منعماً به من جهتين :
الأولى:
جهة حسرة قوته وأنه حيل بينه وبين دينه مع شدة تعلق روحه به
الثانية :
جهة فوات ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له
فالمحبوب الحاصل فات والمحبوب الأعظم لم يظفر به.
وكل من عرف الله أحبه وأخلص العبادة له ولابد ؛
لم يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات
وأما من آثر شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض ،
كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته علي الطيب
سقطت عنها شهوة الطيب وتعوضت بمحبة غيره.
مرض القلب نوعان :
الأول :
نوع لا يتألم به صاحبه في الحال كمرض الجهل والشبهات
والشكوك والشهوات .
وهذا النوع هو أعظم النوعين ألماً ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم ،
ولأن سكرة الجهل والهوي تحول بينه وبين إدراك الألم
وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له
وهو متوار عنه باشتغاله بضده
وهذا أخطر المرضين وأصعبهما وعلاجه الي الرسل
وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض
الثاني :
مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم والحزن والغيظ
وهذا قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه أو بالمداومة بما يضاد تلك الأسباب وما يدفع موجبها مع قيامها ،
هذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ،
ويشقي بما يشقي به البدن
فكذلك البدن يتألم كثيراً بما يتألم به القلب ويشقيه ما يشقيه.
فامراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن
وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت.
وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم ،
إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء.
حياة القلب وموته :
وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ، ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها ،
بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته
وعلامة ذلك :
1- أنه لاتؤلمه جراحات القبائح.
2- لا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة ،
فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه ، وتألم
بجهله بالحق بحسب حياته
وأما الميت فما لجرح بميت إيلام.
وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليه ،
فهو يؤثر بقاء ألمه علي مشقة الدواء ، فإن دواءه في مخالفة الهوى
وذلك أصعب شيء علي النفس وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه علي الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره
كمن دخل في طريق مخوف مفض الي غاية الأمن وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضي الخوف
وأعقبه الأمن فهو محتاج الي قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه
ومتي ضعف صبره ويقينه رجع من الطرق ،
ولم يتحمل مشقتها ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة
وجعل يقول : أين ذهب الناس؟
فلي بهم أسوة وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم.
والمقصود أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن
الأغذية النافعة الموافقة لها
إلي الأغذية الضارة وعدولها عن دوائها النافع الي دائها الضار
فهنا أربعة أمور :
( غذاء نافع ، ودواء شاف ، وغذاء ضار ودواء مهلك )
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي علي الضار المؤذي
والقلب المريض بضد ذلك :
- وإذا عرف هذا فالقلب محتاج إلى :
1- ما يحفظ عليه قوته ، وهو الإيمان وأداء الطاعات.
2- حمية عن المؤذي الضار وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات.
3- استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له ، وذلك بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات.
ولما كان البدن المريض يؤذيه مالايؤذي الصحيح ،
من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك ،
فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدني شيء من الشبهة أو الشهوة
حيث لا يقوي علي دفعهما إذا وردا عليه
والقلب الصحيح يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته.
علامات صحة القلب :-
1- أنفع الأغذية غذاء الايمان ، وأنفع الأدوية دواء القرآن
وكل منهما فيه الغذاء والدواء.
2- ومن علامات صحته أيضاً : أن يرتحل عن الدنيا حتي ينزل بالآخرة
ويحل فيها حتي يبقي كأنه من أهلها وأبنائها جاء الي هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته ،
ويعود الي وطنه كما قال عليه الصلاة السلام لعبد الله بن عمر :
" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور ".
فحيّ علي جنات عدن فإنها
منازلك الأولي وفيها المخيم
ولكننا سبئٌ العدو فهل تري
نعود إلي أوطاننا ونٌسلم
وكلما صح القلب من مرضه ترّحل إلي الآخرة
وقرب منها حتى يصير من أهلها
وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها
حتى يصير من أهلها.
3- ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب
علي صاحبه حتى ينيب الي الله ويخبت اليه ،
ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلي محبوبه
الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه
وقربه والأنس به فيه
يطمئن واليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح وعليه يتوكل
وبه يٌتق وإياه يرجو وله يخاف.
قال أبو الحسين الوراق : "
حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت والعيش الهني
الحياة مع الله تعالي لا غير ".
وقال آخر : "
من قرت عينه بالله تعالي قرت به كل عين ،
ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه علي الدنيا حسرات ".
وقال يحيي بن معاذ :
" من سٌر بخدمة الله سٌرت الأشياء كلها بخدمته ،
ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه ".
4- ومن علامات صحة القلب :
أن لا يفتر عن ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره ،
إلا بمن يدله عليه ، ويذكره بهويذكره بهذا الأمر .
- ومن علامات صحته : 5
أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم
الحريص بفوات ماله وفقده.
6- ومن علامات صحته :
أنه يشتاق الي الخدمة كما يشتاق الجائع الي الطعام والشراب.
7- ومن علامات صحته :
أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا ،
واشتد عليه خروجه منها ووجد فيها راحته ونعيمه
وقرة عينه وسرور قلبه .
8- ومن علامات صحته : أن يكون همه واحداً وأن يكون في الله.
9- أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله.
10- ومنها أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه
بالعمل فيحرص علي الإخلاص فيه
والنصيحة والمتابعة والإحسان ويشهد مع ذلك منة الله
عليه وتقصيره في حق الله.
والمهم أن القلب الصحيح
هو الذي همه كله لله وحبه كله لله وقصده كله لله وبدنه له
وأعماله له ونومه له ويقظته له
وحديثه والحديث عنه أشهي إليه من كل حديث وأفكاره
تحوم علي مراضيه ومحابه.
وكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقاً ينطق :
"" لبيك وسعديك إني سامع مطيع ممتثل ولك علي المنة في ذلك
والحمد فيه عائد إليك ""
وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقاً يقول :
"" أنا عبدك ومسكينك وفقيرك وأنا عبدك الفقير
العاجز الضعيف المسكين
وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر بي إن لم تصبرني ،
ولا قوة لي إن لم تحملني وتقويني ، لا ملجأ لي منك إلا إليك ،
ولا مستعان لي إلا بك ،
ولا انصراف لي عن بابك ولا مذهب لي عنك" .
فينطرح بمجموعه بين يديه ويعتمد بكليته عليه ،
فإن أصابه بما يكره ،
قال : رحمة أهديت إليّ أو دواء نافع من طبيب مشفق
وإن صرف عنه ما يحب
قال : شراً صرف عني" .
إضاءة :
يقول الحق سبحانه :
( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) .