ورد حديث القرآن الكريم عن يونس عليه السلام في سور (الأنعام)، و(يونس)،
و(الأنبياء)، و(الصافات). وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى ونسبه إلى أمه)،
وفي رواية قيل: (إلى أبيه).
حاصل القصة
أرسل الله
يُونس عليه السلام إلى أهل نينوى بالعراق، في حوالي القرن الثامن قبل
الميلاد، فدعاهم - كما هو شأن الأنبياء والرسل جميعاً - إلى إخلاص العبادة
لله تعالى، فأبوا الامتثال لما جاءهم به، فضاق بهم ذرعاً، وأخبرهم أن
العذاب سيأتيهم خلال ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث خرج يونس عليه
السلام من بلدة قومه، قبل أن يأذن الله له بالخروج.
ولم يكد يبعد يونس
عليه السلام عن منازل قومه، حتى وافت قومه نُذُر العذاب، واقتربت منهم
طلائع الهلاك، فساورهم الخوف، وتيقنوا أن دعوة يونس حق، وإنذاره صدق، وأن
العذاب لا بد واقع بهم، كما وقع على من قبلهم من الأمم.
وقد وقع في
نفوسهم أن يلجؤوا إلى الله، فيؤمنوا بما دعاهم إليه يونس عليه السلام،
ويتوبوا مما هم فيه من الشرك، ويستغفروا ربهم مما سلف منهم من الذنوب
والخطايا، فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وتوجهوا إلى الله بالدعاء، وكانت ساعة
بسط الله عليهم بعدها جناح رحمته، ورفع عنهم سحائب نقمته، وتقبل منهم
التوبة والإنابة؛ إذ كانوا مخلصين في توبتهم، صادقين في إيمانهم، فرد عنهم
العقاب، وحبس العذاب، ورجعوا إلى دُورهم آمنين مؤمنين، وودوا لو يعود إليهم
يونس؛ ليعيش بينهم رسولاً هادياً، ونبياً مرشداً.
بيد أن يونس بعد أن
ترك منازل قومه وقد رفضوا دعوته، وتنكروا لحجته، استحى أن يرجع إليهم، ومضى
بسبيله، فأتى سفينة فركبها، فلما وصلت لجة البحر، هاج البحر، وأحيط
بالسفينة ومن فيها، فلما علم ركابها ما هو محيط بهم، وواقع عليهم، قال
بعضهم لبعض: لا خلاص لكم مما هو نازل بكم، إلا أن تتخففوا من بعض من على
السفينة، فاقترعوا بينهم؛ ليلقوا في البحر من وقعت عليه القرعة، فكانت
القرعة على يونس، بيد أن نفوسهم لم تطاوعهم على فعل ذلك؛ لما وجدوا فيه من
كريم الأخلاق، ومكارم الصفات، فعاودوا القرعة ثانية، فوقعت عليه أيضاً، فلم
يأبهوا لذلك، فأعادوا القرعة ثالثة، فخرجت عليه أيضاً، فعلم يونس أن وراء
ذلك تدبيراً، وأدرك خطيئته، وما كان من تركه لقومه قبل أن يؤذن له في
الهجرة، أو يستخير الله في الرحيل، فألقى بنفسه في اليم، وأسلم نفسه
للأمواج.
وأوحى الله إلى الحوت أن يبتلعه، وأن يطويه في بطنه، ولا يأكل
لحمه، ولا يهشم عظمه. وقبع يونس في بطن الحوت، والحوت يشق الأمواج، ويهوي
في الأعماق، ويتنقل في ظلمات بعضها فوق بعض، فضاق صدره، والتجأ إلى الله
بالدعاء: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}
(الأنبياء:87).
فاستجاب الله دعاء يونس عليه السلام، وأوحى سبحانه إلى
الحوت أن يلقي به العراء، فألقاه على الشاطئ سقيماً هزيلاً، ضعيفاً عليلاً،
فتلقته رحمة الله بالعناية والرعاية، فأنبتت عليه شجرة من يقطين، فأخذ
يونس يتغذى من ثمارها، ويستظل بظلها، فعادت إليه عافيته، فحمد الله على ما
أنعم عليه، ثم أوحى الله إليه أن يعود إلى قومه بعد أن أخبره بإيمانهم،
وأنهم ينتظرون عودته؛ ليعيش بينهم داعياً إلى الله. ولما عاد يونس إلى
قومه، وجدهم قد نبذوا عبادة الأصنام، وأنابوا إلى الله عابدين.
وقفات مع بعض آيات القصة
-
قوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا} (الأنبياء:87)، قال في حاشية
الجمل: {مغاضبا} أي: غضبان على قومه، وصيغة (المفاعلة) هنا ليست على بابها،
فلا مشاركة كالمقاتلة، والمؤاكلة. ويُحتمل أن تكون على بابها من المشاركة،
أي: غاضب قومه، وغاضبوه حين لم يؤمنوا بما جاءهم به في أول الأمر.
-
قوله سبحانه: {فظن أن لن نقدر عليه} (الأنبياء:87)، أي: أن يونس خرج غضبان
على قومه؛ لعدم استجابتهم لدعوته، فظن أن لن نضيق عليه، عقاباً له على
مفارقته لقومه من غير أمرنا. أو: فظن أننا لن نقضي عليه بعقوبة معينة في
مقابل تركه لقومه بدون إذننا. فقوله: {نقدر عليه} بمعنى: نضيق عليه، يقال:
قَدَر الله الرزق يقدره - بكسر الدال وضمها - إذا ضيقه، ومنه قوله تعالى:
{الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (الرعد:26)، أي: ضيقه عليه، والتضييق نوع
من العقوبة.
- قوله تعالى: {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}
(الصافات:144)، ذكر المفسرون هنا روايات متعددة عن المدة التي مكثها يونس
عليه السلام في بطن الحوت. ولا ينبغي التعويل كثيراً على هذه الروايات؛ لأن
معرفة المدة لا يقدم ولا يؤخر، ولا يترتب عليه حكم فقهي. والمهم هنا
الاعتقاد بأن يونس عليه السلام مكث فترة من الزمن الله أعلم بها، وكان في
هذه الفترة عابداً لله، منيباً إليه، مسبحاً له، حتى أذن الله له بالخروج
من بطن الحوت، وفرج عنه كربته وهمه.
- قوله سبحانه: {وأرسلناه
إلى مائة ألف أو يزيدون} (الصافات:147)، قال ابن كثير: ولا مانع من أن يكون
هؤلاء هم الذين أرسل إليهم أولاً، أُمر بالعودة إليهم بعد خروجه من بطن
الحوت، فصدقوه كلهم، وآمنوا به. وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد
خروجه من بطن الحوت، كانوا مائة ألف أو يزيدون.
- قوله تعالى: {فلولا
كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب
الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} (يونس:98)، قال القاسمي ما
حاصله: وما يرويه بعض المفسرين من أن العذاب نزل عليهم، وجعل يدور على
رؤوسهم، ونحو هذا، ليس له أصل لا في القرآن ولا في السنة.
ما يستفاد من قصة يونس
أولاً:
أن العبد إذا تاب توبة صادقة نصوحاً في الوقت الذي تُقبل فيه التوبة، قَبل
الله تعالى توبته، وفرج عنه كربه. قال تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت
فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة
الدنيا ومتعناهم إلى حين} (يونس:89).
ثانياً: جاء في ثنايا قصة يونس
عليه السلام قوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى
يوم يبعثون} (الصافات:143-144)، هاتان الآيتان تدلان دلالة واضحة على أن
الإكثار من ذكر الله تعالى وتسبيحه، سبب في تفريج الكروب، وإزالة الهموم.
قال القرطبي: أخبر الله عز وجل أن يونس كان من المسبحين، وأن تسبيحه كان
سبب نجاته؛ ولذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. وفي هذا المعنى
قوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح
فليفعل)، رواه أحمد في كتاب "الزهد". فليجتهد العبد، ويحرص على خصلة من
صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويسترها عن
خلقه، لكي يصل إليه نفعها، وهو أحوج ما يكون إليه.
ثالثاً: ورد في فضل
الدعاء الذي دعا به يونس عليه السلام روايات عديدة، من ذلك ما رواه الحاكم
في "المستدرك" عن سعد بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (هل أدلكم على اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب،
وإذا سئل به أعطى؟ الدعوة التي دعا بها يونس حيث ناداه في الظلمات الثلاث،
{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}. فقال رجل: يا رسول الله! هل
كانت ليونس خاصة، أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ألا تسمع قول الله عز وجل: {ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}
(الأنبياء:88). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم دعا بها في
مرضه أربعين مرة، فمات في مرضه ذلك، أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ، وقد غُفر
له جميع ذنوبه).
رابعاً: تدل هذه القصة على فضل الدعاء عموماً؛ وذلك أن
الدعاء من العبادة، وقد وعد الله عباده الداعين بالإجابة، كما قال تعالى:
{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر:60). فلا ينبغي للعبد أن يزهد في أمر
الدعاء، بل عليه أن يجعل الدعاء ديدنه، سواء في حال الرخاء، أو حال الشدة.
خامساً:
يفيد قوله تعالى في هذه القصة: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي
المؤمنين} (الأنبياء:88)، أن المؤمن إذا وقع في كرب وشدة، ولجأ إلى الله
بالدعاء، فإن الله مفرج كربه لا شك؛ وذلك أنه سبحانه وعد عباده المؤمنين،
بأن يكشف ما نزل بهم من الكروب، وأنه سبحانه لا يتركهم وحدهم فيما هم فيه
من همٍّ وغمٍّ. وهي بشارة لكل مؤمن يقتدي بيونس عليه السلام في إخلاصه،
وصدق توبته، ودعائه لربه، بأن الله منجيه من كل غمٍّ، إذا صدق في إيمانه،
وأخلص في دعائه.