أهلا وسهلا بك ضيفنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، وفي حال رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
قال صديقي: (1) قضيت أمتع أيام حياتي؛ قبل أسبوع في ربوع المدينة المنورة؛ بجوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. كان يغيب عن ذهني أن المرء في غمرة الحياة العصرية المزدحمة؛ يمكنه أن يجد مكانًا يهرب فيه بنفسه إلى نفسه من ضجيج الحياة. ويلتقي بروحه؛ إلى أن وطئت قدماي أرض المدينة المباركة؛ لزيارة الأهل والأحبة؛ وشممت نسيمها العليل؛ وهناك وجدت ما افتقدت.
ويتبدل الحال تمامًا عندما تقول: بسم الله.. اللهم صل على محمد.. اللهم افتح لي أبواب رحمتك ثم تقدم رجلك اليمنى.. وتدخل مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلم..
فهناك تعرف يقينًا معنى سباحة الروح في عالم الطهر والصفاء؛ هناك تجد ما افتقده عُبَّاد الدنيا؛ الراكضون وراء الشهوات؛ من سعادة لايفي بوصفها قلم كاتب ولا لسان خطيب.
عجبت وأنا أسرح بروحي في عالم الملكوت الرباني الرحب؛ حينما وقفت في منتصف روضة المسجد؛ التي هي روضة من رياض الجنة؛ بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومنبره؛ عجبت كيف لايهتدي إلى هذا المكان من ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه؛ كيف لا يأتي إلى هنا ليفرغ ما في صدره من هموم؛ ويبُثَّ ربَّه شكواه؛ وقد تهيأت نفسه؛ في روضة من رياض الجنة.
لماذا نرى الناس طلبوا السعادة في غير مظانها؛ وهي هنا لا تكلف مالًا؛ ولا تتعب جسدًا.
جلسة هنا تنقي الروحَ من أوحالها؛ وتغسلها من أدرانها؛ وتنقلها إلى حيث يصعد الكلم الطيب؛ والعمل الصالح؛ شعور.. لا أدري هل أنا الوحيد الذي أشعر به أم أن من حولي كلهم يدور في فلكه؛ كلا؛ بل أن كل من شرفه الله بالإقامة أو زيارة مسجد الحبيب صلاة الله وسلامه عليه لابد. وأن لامس قلبه برد المحبة حين وطئت قدماه هذا الثرى الطيب؛ الذي لامسته أقدام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.. * * *
الرهبة الكبرى.. عندما خطوت خطوات قليلة؛ هادئة؛ بل أحس كل قدم تختبيء وراء الأخرى حياءً..
من هول ما أنا مقدم عليه؛ لست صوفيًا مبتدعًا ولا أؤمن بترهاتهم لكنني شعرت برهبة مثَّلتها قدماي حينما نقلتهما.. بصعوبة.. أكاد أتعثر..حتى وقفت أمام الحجرة التي يسكنها خير من وطئت قدماه الأرض.."السلام عليك يا رسول الله..أشهد أنك رسول الله حقًا.. بلغت الرسالة.. وأديت الأمانة.. وجاهدت في الله حق جهاده.. وتركتنا على المحجة البيضاء.. ليلها كنهارها.. لا يزيغ عنها إلاَّ هالك.." أكاد ألثُمُ أرضًا قد درجتَ بها
***
أجثو من الرهبة الكبرى على قدمي سلمت على صاحبيه الكريمين؛ شعرت أن دموعي تسابق كلماتي.. عدت مرة أخرى أمام الحجرة.
وكأنما أنا واقف بين يديه حقًا؛ أخاطبه بهذه الكلمات؛ وتخيلته ينظر إلي على ما أحمله على ظهري من أوزار؛ ينوء بها قلبي؛ فأطرق حياءً؛ وأقول في نفسي:كيف لو ذادتني الملائكة عن حوضه يوم القيامة؟! كانت الدموع لا تتوقف.. وتمنيت أمنية صادقة لو أنني رأيته بأم عيني ولا أبالي بعدها إن خرجت من الدنيا أو مكثت بها.. استفقت على منادي الحياة.. وهو يصيح بالناس كأنما يدعوهم الى أن يقفوا في الروضة.. ويسلموا على الحبيب من خلف دار الحجرة.. ثم يقضوا فرضهم.. الله أكبر؛ الله أكبر؛ أشهد ألاَّ إله إلاَّ الله بك استفقنا على صبح يؤرقه *** بلال بالنغمة الحرَّى على الأطم.. تذكرت بلالًا حينما تعثرت الكلمات بين شفتيه.. وهو يقولها كأنما ينتزعها من أعماق فؤاده.. في أول مرة يقوم فيها يؤذن بعد وفاة إمامه صلى الله عليه وسلم.. فعذرته من كل قلبي.. ياحُسْن المدينة وطيب المقام بها رغم حرها الشديد وبردها الأشد؛كيف لا وقد دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: فقال: {اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد؛ وصححها لنا؛ وبارك لنا في صاعها ومُدّها وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجحفة} (2)
* * *
(قلت له).. - أتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أجر من يصبر على لأواء المدينة وحرِّها وبردها.. وشفاعته لمن مات بها وأن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد.. قال لي: -.. (وابتسم ابتسامة عذبة).. لي عمٌ صالحٌ.. خدم في مسجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم خمسة وخمسين عامًا.. يحدثني.. أنه كان يشعر بأنه في عالم وبقية الخلق في عالم آخر.. لكنه.. لم يطأ بقدمه قط أرض الحجرة النبوية مع يسير دخول مثله إليها في بداية حياته. فسألته لما لم يدخلها؟! - قال؛ قال لي:ـ أيهون عليك ياولدي وقد فقدت جارًا أو صديقًا تحبه حبًا جمًا أن تدخل منزله بعد موته بلا إذنه؟ أيهون عليك أن ترى له في كل ركن ذكريات؛ ثم لا يتزعزع فؤداك بين جنبيك ويضطرب؟! - قلت له: لا.. - قال: وهل أعظمُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.أفهل تريدني أن أدخل منـزلًا عاش فيه مع حبيبته أم المؤمنين أُمّنا عائشة الصديِّقة رضي الله عنها؛ أيامًا بل أعوامًا؛ سطر التاريخ فيها أعظم وأروع قواعد التعامل النبوي بين الزوجين الحبيبن؛ ونقلت الصديقة؛للدنيا كلها؛ كل شيء عن حبيبها يحيي به الله الأرواح من قول أو فعل؛ من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وسيد الخلق أجمعين. أفهل بعد هذا ياولدي..تريدني أن أتجرأ وأدخل في ذلك المكان. لا ياولدي..لا.. واغرورقت عيناه بالدموع. قلت لمحدثي: والحديث؟! قال لي: مستطردًا.. كان عمي يخبر عن رجل اسمه (صالح) وكان صالحًا في نفسه؛ كان يبحث عن اللقمة الحلال ليملأ بها أفواه صغاره وزوجته؛ فكان يأتيه رزقه رغدًا من كل مكان.. يجلس بجوار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويبعث صبيانه (.. عُمَّاله) كلٌ بيده إناء يملؤه بالماء؛ ويوزعه على الناس ويأخذ مقابله ماقسم الله له! ويقسم الباقي على عماله؛ ثم يصلي العشاء ويؤم منزله؛ وهكذا حياته؛ كان ذلك قبل دخول الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله الجزيرة. وفي يومٍ ساقه قدره إلى منزل شخص؛ كان يلتف حوله جماعة من الناس؛ ليقوم باستخراج ما في أجوافهم من ضحك؛ وما في رؤوسهم من عقول! إن بقي لهم عقول؛ بسخافات وشعوذات؛ لا تعدو كونها سحرًا ودجلًا. تارة يصور لهم (..إبريق الشاي) على أنه دجاجة! والأقداح (الأكواب) أفراخها؛ فيسحر أعين الناس؛ وهم مستسلمون؛ كالنيام. قدم عليهم (صالح) و(صديق) معه وهم غرقى في الضحك؛ وفي سكراتهم يعمهون؛تملأ قهقهاتهم شوراع المدينة. دهشا مما رأياه وعلما أن وراءه ما وراءه!! من سحر وشعوذة؛ فبادرا على الفور باستخراج ما يحفظانه من نصوص القرآن والسنة من قلبيهما ليلقيا بها في وجه هذا الدجال!! إنكارًا لفعله الشنيع إلاَّ أن الضلال- ياولدي- أعمى قلب هذا الساحر فسخر منهما..وقال لهما كلامًا..معناه.. أنكما لستما برجالٍ (..أي ذكرين) حتى تنكرا عليَّ. تغير وجه (صديق صالح) وقذف في وجهه كلامًا كوقع البَرَد على الزجاج علَّه يرعوي عن غيه! فلم يزده ذلك إلاَّ نفورًا! وكرر كلامه للجالسين.. وقال لهم.. - اكشفوا عنه ستجدونه أنثى!! فقام (صديق صالح هذا) تحت تأثير الغضب.. وكشف لهم عن (.....)! فإذا بهول المفاجأة يعقد الألسنة؛ وترتفع معه الحواجب؛ وتشرأب الأعناق؛ وتتسع الحُدُق؛ لفظاعة المنظر..إنه حقًا (...أنثى)!.. خرج الرجل مسرعًا لا يلوي على شيء؛ يجر وراءه الخزي الذي ألصقه به ذلك الساحر الدجال؛ وقذف الشيطان في قلب (صالح) من لحظته فتوى قبيحة! بأنه لابد له من كشف عوار الساحر وتبديد ظلام باطله وإجلاء أمره للناس.. ولكنه! أخطأ الطريق! فعمد إلى تعلم السحر! أي والله ياولدي فضعف الإيمان يفعل فعله في القلوب إن لم يثُب المرء إلى رشده ويلجأ إلى كتاب الله!. أصبح (صالح).. في أيام قلائل.. بارعًا في صنعته الجديدة الخبيثة التي لايتقنها إلاَّ كل بعيد عن الله تعالى..ولا بُدَّ!. أوغل فيها إيغالًا شديدًا حتى أصبح يسخِّر نساء المسلمين لمن يريدهن لفعل الـ.... أستغفر الله! ومن أين يأخذهن؟! من أين تتوقع ياولدي؟! - قلت لا أعلم.. - قال لي وقد ترقرت الدموع في عينيه؛ من الحرم.. من الحرم.. ياولدي. قلت له: كيف هذا يا عمي!! وهل هن....... - قال: استغفرِ الله يا ولدي؛ لا تظن بهن السوء.. - قلت: كيف إذن؟!.. - قال: يأتيه الخبيث من أمثاله؛ فيطلب منه شيئًا يستطيع به السيطرة على امرأةٍ ما؛ فيكتب له ورقة ويأمره بأن يضعها في يده ويقبض عليها بقوة؛ وينظر إلى أية امرأةٍ شاء.. وهي (بلا شعور)! تقوم وكأنها مخدرة وتمشي خلفه حتى تكون الفـ....... - قلت أعوذ بالله..
قال.. ومرة.. جاء أحدهم.. فأعطاه ورقة قبض عليها؛ ثم فعل ما أمره به؛إلاَّ أن الله تعالى أراد لتلك المرأة المسكينة المتعبدة لربها في رحاب مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ خيرًا. فبعد أن قامت (بلا شعور أيضًا) تمشي كالشاة المقودة خلف ذلك الذئب الخبيث؛ سقطت الورقة من يده فجأة؛ فصحَتِ المرأة من نومها وانقشعت عن أعينها سحب الظلام؛ قبل أن يقع ما تكره؛ فنـزلت عليه؛ ضربًا بحذائها (القبقاب)! على رأسه ضربًا مبرحًا؛ حتى استخرحت الدم من رأسه وخضبت به وجهه القذر!.
قال عمي: - وكنت أسمع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة وأنها تنفي الرجال والخبث كما ينفي الكير خبث الحديد؛ ولا أعلم صحته! وكنت أرى ذلك الخبيث فأقول في نفسي إما أن هذا الحديث ليس بصحيح؛ أو أن هذا الذي انسلخ من آيات الله لن يموت بالمدينة!! أوغل (صالح) في غيّه.. حتى إذا قدر الله تعالى.. أن يقي المسلمين شرَّه.. سقط مريضًا مصابًا بالشلل النصفي (الفالج) فذهب إلى الاطباء.. وأعياه السعي وراء طلب العلاج.. حتى يئس تمامًا!! فدُلَّ على شيخٍ من شنقيط..
ـ تعلم من هو؟!
ـ لم يخبرني عمي باسمه..
ـ نعم.. وماذا بعد ذلك؟!
ـ قال ذهب إلى الشيخ.. وهو يعلم أمره فقد فاحت رائحته في الناس..وهناك انهار وخارت قواه وتوسل لدى الشيخ أن يرقيه؛ فوافق الشيخ على ذلك بشرط واحد.. وهو أن يعاهده بالله تعالى على كتابه الكريم ألاَّيعود إلى السحر والشعوذة بعد أن يشفيه الله تعالى من ذلك الشلل؛ وذكره بمغبة نقضه لعهد الله من بعد ميثاقه. وأن الله تعالى إن أَخَذَ؛أخَذَ أخْذَ عزيزٍ مقتدر. فوافق (صالح) تحت ضغط الألم.. ومرارة الحاجة..فوضع يده على كتاب الله.. وأقسم بالله ألاَّيعود. أخذ الشيخ يقرأ عليه القران غضًا طريًا!! حتى قضى الله بشفائه بعد جلسات متكررة!! فلما شفي.. مكث سنةً كاملة.. لم يقارف فيها ما قارف من قبل. حتى اذا غلبت عليه شقوته وأراد الله هلاله؛ نقض عهد الله وتبرأ من ميثاقه.. وزجَّ بنفسه في جحيم الدَّجل والشعوذة. فعاقبه الله بأن أصابه الشلل هذه المرة قويًا أليمًا.. نقل من فوره الى مصر للعلاج..
ـ نعم وبعد!!
ـ بعدها.. أخذالله روحه.. هناك ودفن في مقابرها.. قلت عبرةٌ.. قال محدثي.. العبرة.. رأيتها في وجه عمي الذي قص لي تلك القصة وهو يكبر ويهلل ويقول.. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق رسول الله.. نفت المدينة خبثها..
* * *
قال.. إن أنس لاأنس زيارته لي في (باكستان) أثناء دراستي هناك.. ودخوله مسجدًا عظيمًا من مساجدها.. وقد خرج بعد الصلاة.. فألمح في عينيه بريقًا شدني إليه من بعيد.. اقتربت منه وإذا البريق دموع تحدرت كالجمان من عينيه.. واكفةً على خديّه. سألتُه.. هل ضايقناك بشيء لاقدر الله؟ هل أنت متعب؟.. هل تحتاج إلى شيء؟! قال لي: لاياولدي.. ولكنني عندما كبرَّت للصلاة.. تذكرت الروضة في مسجد النبي تخيلتُني هناك.. آهٍ.. متى العودة إليها؟..متى العودة إلى المدينة؟! أدار ظهره لي ليستكمل بقية شجنٍ في صدره.. يخرجه في صورة دموع لاتسِحُّ.. أما أنا فلم أَلُمْه.. بل فتشت في صدري لأتلمس قلبي.. وأقارن بينه وبين قلبه فإذا بينهما بونٌ شاسع.. فسبحان من قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء..
* * *
قلت له.. أما حدث.. وأن رأى عمُّك عبرة أخرى؛ فيها حسن خاتمة لمسلم طائعٍ؛ أو سوء خاتمة لعاص؟! ابتسم في رقةٍ أخَّاذةٍ (وهكذا تشعر إذا جالسته؛ فحديثه السحر الحلال)!.. وقال:-
- هذا ماكنت سأحدثك عنه.. قال: قال عمي رحمه الله..-قاطعته مندهشًا-: أهو قد مات؟! قال: نعم.. ولذلك قصة أخرى.. عبرٌ كلُّها!. اشتقت لسماعها.. لكنني أثرت أن تتصل حبال أفكاره فأسمع الأولى: قلت: نعم.. قال: رجل.. اسمه (..) أو لاداعي..فلنا جوهرها.. ولاحاجة إلى ذكر اسمه..كان متزوجًا من إمراة صالحة.. قائمة صائمة.. حافظة لزوجها ونفسها.. إلاَّ إنه زلَّت قدمُه.. وألقى بنفسه في حضن الرذيلة.. وأخذ يعبُّ من الخمر ليلةً.. حتىإذا بلغ الثمالة عاد إلى البيت بخطى مبعثرة.. مترنحًا؛ عاضًا على فكه السفلي بالعلوي؛ كأنه يُخفي في فيه شيئًا.. ودَّعَ أربابَ السوء الذين أطعموه الفجور وسقوه كأسه؛ زوجته داخل الدار.. تكاد تأكل نفسها من الهمِّ والأرق؛ لتأخره عن المجيء.. فجأة.. وإذ بها تسمع إدارة المفتاح في قفل الباب.. دفعه بقوةٍ حتى ارتد في الجدار.. ثم دخل وأغلقه خلفه.. سُمعتْ له ضجةٌ عظيمة.. أصمَّت الأذآن.. نَظرتْ إليه فإذا هو ليس هو!! سألتْه: - مالك؟! - حرَّك رأسه يمينًا وشمالًا.. أي لاشيء. شمَّتْ منه رائحة الخمر!! ـ قالت ما هذه الرائحة؟! أليست (سبرتو)؟!! ـ قال (بلسان ثقيل كأنما لصق بحنكه)؛أبدًا.. خلعت ضرسي قبل قليل. سكتتْ.. وصبرتْ.. بعقل المؤمنة.. وإيمان العاقلة. أسلم رأسه الى المخدة.. فغط في نوم عميق؛ أرسلت إلى إخوانها؛وبعد أن حضروا أفهمتهم القصة ـ أين هو الأن.. ـ قالت: نائم.. لا يحس بشيء - قالو ا: دعيه حتى يستيقظ؛ فلما استيقظ؛ اغتسل وصلى الفجر؛ في ضحى النهار؛ وطلب الافطار؛ فقالت له: (على عادة نساء ذالك الزمان): ـ ياسيدي! إخواني ينتظرونك في (المجلس). هبَّ واقفًا.. معتمدًا على بقية من حياء مختبئة في زاوية من زوايا ضميره.. ـ لِمَ لم توقيظني؟! ـ قالت رأيتك متعبًا وآثرتُ أن تستيقظ أنت من تلقاء نفسك. ـ رحَّب بهم.. لكنه. رأى برودًا في كلامهم وسلامهم.. قالوا: ـ (فلان) نريدك أن تطلق أختنا!! ـ (بدهشة).. ماذا؟! هل حصل شيء لاقدر الله؟! ـ قالوا (بكل صراحة)! نعم.. أنت رجل غير صالحٍ؛ وقد قَدِمتَ عليها ليلة البارحة سكران حتى خافت منك على بناتها (وكنَّ ربيباته)! ـ أطرق الرجل.. وعلته الرحضاء (العرق الشديد).. رغمًا عنه.. اختلط دمعه بعرقه.. أحس أن ضميره استيقظ من سباته لكن..هذه المرة.. يقظةً مابعدها يقظة!؟ ـ قال لهم.. بخجل شديد.. فإن أنا عاهدتكم على كتاب الله ألا أعود أتغفرون لي ذلك؟! هل تتركون لي زوجتي وبناتي؟! قالو: نعم فالله غفور رحيم.. طلب من زوجته أن تأتي له بالمصحف.. مدَّ يده عليه.. أخرج كلمات من أعماق نفسه وألقاها على مسامعهم كأنها تقطر حياءً من الله تعالى.. ومنهم!.. شعر بارتياحٍ عجيب؛ وأحس بذاته لأول مرة.. وجد نفسه تنساب فجأة مع كلمات عذبه انبعثت من جوانب المسجد النبوي؟! قام.. تبع الصوت.. ومع آخر كلمةٍ سمعها من المؤذن كان قد وقف مطأطيء الرأس في روضة من رياض الجنة بين بيت الحبيب عليه ومنبره. -الله أكبر.. رافعًا يديه حذو منكبيه.. أخرج تلك الكلمة كأنها قنبلة هائلة كانت ساكنة في صدره.. فألقاها على مسامع الكون كله.. لم يتذكر لحظتها الضحكات السخيفة التي قابلها في طريقه إلى المسجد.. من أرباب الفسق والمجون.. الذين سقوه الخزي.. عندما رأوه ذاهبًا إلى الحرم فمال بعضهم على بعض من شدة الضحك والاستهزاء.. -(شوفوا..رايح يصلي.. صار شيخ.. وهو لسَّه شارب البارح معانا! هاها). لم يعيها ولم يلق لها بالًا.. فقد كان مشغولًا عنها؛ ركع وسجد.. فأطال السجود.. مما أثار سخرية الشياطين الذين كانوا يرقبونه من بعيد.. وهم يقولون: -(صار شيخ بصحيح)!! ويطلقون الضحكات؛ لم يرفع رأسه.. انتظروا.. طال الوقت..هدأ ضجيجهم!! بعثوا أحدهم ليستطلع الأمر.. فوجد الحقيقة الرهيبة.. وجد أنه قد أسلم روحه إلى بارئها في هذه الهيئة العظيمة.. يالها من خاتمةٍ ماأحسنها.. دخلهم الرعب.. فوجموا عن الكلام؛ نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحدٍ ثم انصرفوا.. صرفـــ... -هل اعتبروا بها؟. ـ لاأدري.. فلم يخبرني عمي.. ولكنه قصد بها العبرة وتعريفنا كيف يكون حسن الخاتمة؛ على النقيض من الأول وكان ذلك من توجيهه لنا وتربيته.. قلت:رحمة الله عليه.. ورزقنا حسن الخاتمة.
قال لي: - أطلت عليك.. - قلت.. وهل حديثك يُمَلُّ؟! سامحك الله. هلا تكرمت بإخباري عن القصة التي وعدتني بها؟؟ قال: -.. آه.. عن موت عمي رحمه الله.. قلت: - نعم.. قال:-.. مرض فترة ليست بالقصيرة.. وأدخلناه.. (مستشفى الملك فهد العام) بنواحي المدينة.. فكان دائم البشر؛ مشرق المحيا؛ كثير التبسم.. وكان كثيرًا مايردد (.. الحرم.. الروضة.. الصلاة) حتى في حالة إغماءته..و في يوم من أيام مرضه.. دخلت عليه زوجته.. وقد اشتد به الكرب.. وبدأ يفقد تركيزه.. ويغيب عن وعيه.. سمع أذآن الحرم لصلاة المغرب عبر (مكبرات) المستشفى الداخلية.. ففتح عينيه وخاطب زوجته ـ قال لها: ـ أنا ساذهب للصلاة في الحرم.. وأنت أظنك لن تستطيعي اللحاق بي.. توضئي وصلي (3) في مسجد (الغمام) القريب.وكان لايستطيع الحراك تمامًا.. فجأة وإذ به يبتسم ابتسامة عجيبة ما رأيت مثلها.. وانحنى رأسه وودع الدنيا.. واستقبل الآخرة وفي قلبه هم (الحرم.. والروضة.. والصلاة..) كما روت لنا زوجته. لم أكن أعلم بموته إلاَّ من (بكاء) امراته وأنا في صلاة المغرب.. في المستشفى..وكنت أسمع أحد المرضى ينصحها باحتساب الأجر والصبر على قضاء الله وقدره؛ثم تبين للناصح ولي أن الميت هو عمي؛ رحمة الله عليه رحمةً واسعةً.. وأدخله في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.. فهو شفيع لمن مات في المدينة كما بشرَّ به!! كان رحمة الله عليه.. آية في حبه للخير؛ وحبّه لطيبة الطيبة؛ وكان شديد الحرص على الموت بها؛ وكان- رغم فقره الشديد- يُدَرُّ عليه الرزق من حيث لايحتسب.. ولوذهبت أذكر لك في ذلك ماحفظته لطال بنا المقام.
* * *
هل تنتظرون تعليقًا بعد هذا.. جفَّ حلقي وقلمي؛ الله أعلم.. كيف يكون حالي أنا!! اللهم ارزقني حسن الظن بك.. وحسن العمل وحسن الخاتمة.. أخذت بيد صديقي.. وقمنا سويًا لصلاة الظهر.. فقد سمعنا الأذآن قبل قليل.. وكأن جلستنا لم تتجاوز خمس دقائق.
* * * ============= [1]- الدكتور علي بن أحمد العدني الأشعري؛ طبيب العيون حفظه الله.
[2]- رواه الشيخان؛ وهو في البخاري: كتاب مناقب الانصار: باب مقدم النبي وأصحابه بالمدينة؛ ورواه مسلم مختصرًا.