أهلا وسهلا بك ضيفنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، وفي حال رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
((لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ))؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
هكذا قال المعصوم - عليه الصلاة والسلام -: ذرة كِبر واحدة تفعل كل ذلك!
لا شك إذًا أن الكِبر شيء بالغُ الخطورة، ولعل هذه الخطورة راجعة إلى كون الكِبر في حقيقته تمردًا معلنًا على أصل الإنسان ومقامه الذي أنزله اللهُ إياه.
إن المتكبر ليتناسى أنه مِن تراب الأرض التي يمشي عليها خُلِقَ، وإلى هذا التراب يستحيل بعد موته، إنه ليتجاهل أنه مهما فعَل وأنجز فهو مجرد عبدٍ لا يملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
ولهذا كان تذكير الإنسان بضَعفه في معرِض نهيه عن الكِبْر، ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾} [الإسراء: 37، 38].
إنها رسالة واضحة، مُفادها: أيها الإنسان، لا تنسَ نفسك، ولا تجاوِزْ حدَّك، وقد عبر شيخ المعرة أبو العلاء عن هذا المعنى فأجاد، إذ قال:
صاحِ، هذي قبورنا تملأ الرح بَ، فأين القبور من عهد عاد؟
خفِّف الوطء، ما أظن أديمَ ال أرض إلا من هذه الأجساد!
والجدير بالملاحظة أن الكِبر قد استُعيض عن ذكره هنا بذكر مظاهره، ومن أبرزها طريقةُ المشي وهيئته، وهذا يؤكد أن الكِبر خُلُق ظاهري كما هو باطني، وغالبًا ما يبدأ باطنيًّا، ثم يظهر في تصرُّفات صاحبه، وفي هذا السياق تأتي وصيةُ لقمان لابنه التي خُلِّد ذكرُها في القرآن الكريم، وفيها قوله: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].
إلا أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الكِبر لا يمكنُ أن يوجدَ عند البعض باطنيًّا دون ظهور، بل يمكن القول: إن مظاهر التكبر ليست إلا عرَضًا متأخرًا من أعراض مَرَضٍ وُجِد في القلب من قبل، وحيث إن ذرة واحدة من هذا الداء تُورِد المصاب بها المهالك؛ إذ إنه من جنس الأمراض السرطانية التي تستطيع الانتشار في الجسد كله عن طريق خليَّة واحدة لا تراها العين - فإن هدف هذا المقال تسليطُ الضوء على شيء من أعراض هذا المرض وطرق علاجه، أملاً في زيادة المناعة ضد وجوده.
لقد حث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على التواضع، وهو نقيض الكِبر، وورد ذلك عنه في عدد من الأحاديث الصحاح، منها ما رواه الإمام مسلم من حديث عِياض بن حمار - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وإنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا، حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ))، وجاء في صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((وما تواضَع أحدٌ للهِ إلا رفعه اللهُ)).
ولكن، ما المقصود بالتواضع هنا؟ وما معناه؟
إن معناه الرجوع إلى الأصل، وإنزال النفس منزلتها الطبيعية، وهي تَساويها مع باقي المسلمين، وهذا يتجلى فيما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه قال يومَ فتحِ مَكَّةَ: ((يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ، وتعاظمَها بآبائِها؛ فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ، قالَ اللَّهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]))؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومن ذلك أيضًا قوله - عليه الصلاة والسلام - في خطبة الوداع: ((يا أيها الناسُ، إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألاَ لاَ فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا عجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟))، قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: ((فيُبَلِّغُ الشاهدُ الغائبَ))؛ رواه أحمد وصححه الألباني.
من هذه النصوص نفهم المنهج الإسلامي في معالجة الكِبر، وهو يتلخص في تجريده من جميعِ مبرراته، وأسباب وجوده، من تفاضل في نسب أو مال أو جاه وغير ذلك، ومن هنا يأتي التواضعُ الذي حثَّ عليه الشرعُ.
غير أن كثيرًا من الناس يفهَمون التواضُعَ على غير المعنى المذكور، فيظنونه مجردَ مظاهرَ، ولسان حال الواحد من هؤلاء: أنا لستُ وضيعًا، بل قد فعلت كذا وكذا، ولكن لا يليق بي أن يظهَرَ في تعاملي مع الناس أيُّ مظهرٍ من مظاهر الكِبْرِ، والحق أن فهمَهم للتواضع بهذه الطريقة لا يعوزه السند اللغوي، فالفعل "تواضع" على وزن "تفاعل"، وقد ذكر علماء اللغة أن من المعاني التي يُفيدها هذا الوزن: "التظاهر، ومعناه الادعاء بالاتصاف بالفعل مع انتفائه عنه، مثل: تناوم - تكاسل - تجاهل - تعامى"؛ د. عبده الراجحي، التطبيق الصرفي.
وهذا عين ما يحدث مع هؤلاء، فإنهم يَظهَرون بمظهر المتواضع؛ حرصًا على الذَّوق والأدب الاجتماعي الراقي، ولكنهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم أرفعُ شأنًا من غيرهم، إنهم يشعرون أن تواضعَهم فضلٌ لهم، وشيءٌ من مكارمِ أخلاقهم.
الخطير في هذا المسلك أنه يحصُر الكِبر في جزئه الظاهري، ويتغافل - وقد يتعمد ذلك في بعض الأحيان - عن وجودِه الباطني، بينما الكِبر في مبدئه وأساسه إنما يكونُ في القلب، ومن هنا يتضحُ أن هذا المسلكَ يوقع سالكَه تحت الوعيد الرهيب: ((لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ))، ويتضح أيضًا أن التواضع بهذا المعنى إنما هو نوعٌ خبيث من أمراض الكِبر والعُجب.
إن الإسلام عندما حارَب الكِبر حارَبه بجميع أشكاله الظاهرة والباطنة، وقد قطع الطريق عليه عندما جعَل الأساس الوحيد للتفاضل شيئًا غيرَ خاضعٍ للتقدير البشري، وذلك في القاعدة التي أعلنها القرآن: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
أيستطيع إنسان أن يكون على يقين من أنه الأتقى؟
كلا، فليس ذلك إلا للعليم الخبير سبحانه، إذًا فليس لأحد أن يظنَّ في نفسه فضلاً على غيره من المسلمين بأي حالٍ من الأحوال، بل الأجدر بالإنسان انتقاصُ نفسه وذمها؛ إذ هو من ذنوبه على يقين، ومن ذنوب غيره في شك، وهذه كانت أحوال الصالحين من سلفنا - رحمهم الله - وأخبارهم في ذلك كثيرة مشهورة.
إن المسلم ليتواضَعُ لأنه مقتنع أن هذه منزلته الحقيقية؛ لأنه مدرك لذنوبه، عارف بتقصيرِه، لأنه لا يرى في نفسه فضلاً، ولأنه يرجع كل نجاح إلى توفيق الله - تعالى - وإعانته.
عندما يؤمن الإنسان بهذه الحقيقة التي أرادها الشرعُ أن تنحفر في قلبه، وأن تنطبع بها تصرفاته وأفكاره، يكون - بإذن الله - محصَّنًا ضد الكِبر، ظاهره وباطنه، حجارته وذراته.