بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى: مخاطبًا نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم : « مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى » والشقاء هو العنت والتعب والنصب واللغوب،وللمفسرين في هذه الآية قولان، كل منهما دل عليه القرآن الكريم:
القول الأول: أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لما فرض الله تعالى عليه وعلى من آمن معه قيام الليل بقوله : يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * [المزمل: 1، 2]، كان ـ صلى الله عليه ـ وآله وسلم يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه، فبعد عام من هذه الفريضة قال الله تعالى: له: « مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى » عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20].
وعلى هذا القول نستفيد
أنه ينبغي للعابد أن يأخذ نفسه بالرفق وباللين وألا يشق عليها في العبادة وألا يكلفها ما لا تطيق، فأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل، فإذا أنت دخلت في هذا الدين برفق كما أوصاك النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ( إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ) وصلت بإذن الله عز وجل، لأن العمل الخفيف يدوم، أما العمل الثقيل لا يدوم لأن الإنسان لا يطيقه ولا يتحمله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينكر على من شدد على نفسه وكلفها ما لا طاقة لها به، كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأمر دائمًا بالاعتدال والوسطية في العبادة، وينهى على الذين يغلون ويشددون على أنفسهم ويكلفونها ما يعجزون على الاستمرار فيه والوصول به إلى ما أراده الله تبارك وتعالى منهم، لما جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، أي عدوها قليلة، ثم حاولوا أن يلتمسوا لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـالعذر في قلة عبادته كما ظنوا، فقالوا : وأين نحن من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، يعنون أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ليس بحاجة إلى مزيد عبادة ولا كثرة عبادة، لأن الله عفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما هم فليسوا كذلك، إذا هم يحتاجون إلى مزيد عبادة، وكثرة عبادة واجتهاد فيها أكثر من اجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هكذا ظنوا، فقال أحدهم : « أما أنا فأقوم الليل لا أرقد »، وقال الثاني : « وأنا أصوم الدهر لا أفطر »، وقال الثالث : «وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا » ، فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم فقال : « أنتم الذين تقولون كذا وكذا، والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أقوم وأرقد،وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » ، كذلك إنكاره ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـعلى عبد بن عمرو بن العاص لما بلغه أنه يصوم النهار ويقوم الليل ويقرأ القرآن كل يوم، أنكر عليه ذلك وأمره بالرفق بنفسه، وأمره أن يلزمها بالخفيف القليل الذي يدوم، فكان عبد الله بن عمرو يراجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما ندبه إليه من التخفيف في العبادة، ثلاثة أيام من كل شهر تعدل صيام الدهر، قال : « إني أطيق أفضل من ذلك »، فمازال يشدد على نفسه حتى قال (صم يومًا وأفطر يومًا ) ، قال : إني أطيق أفضل من ذلك، قال : (لا أفضل من ذلك ) ، أفضل الصيام صيام داود ـ عليه السلام ـ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، مع ذلك عبد الله بن عمرو لما تقدمت به السن ودخل في الشيخوخة قال :« ياليتني قبلت رخصة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم»، ندم على أنه شدد على نفسه، لأن الشباب غير الشيوخ، وأنت في الشباب صحة وعافية وقوة، لا تظن أنه إن طالت بك السن ستدوم لك هذه الصحة والعافية والقوة، هذا يخالف سنة الله في خلقه « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً » [الروم: 54].
فلا تظن أيها الشاب أنك ستظل شابًا حتى لو كنت شيخًا ستظل بقوتك وعافيتك، لا الأيام تتقدم بك، والصحة ترجع إلى الوراء، فإذا التزمت عبادة فالتزم بما يخف عليك منها وبما تستطيع المداومة عليه، لا تشق على نفسك ولا تكلفها ما لا طاقة لها به، فإن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عاب على من ألف عبادة ثم تركها، فقال ( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل )، وقال له ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل )، ودخل النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ذات مرة فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال ( ما هذا الحبل؟ )، قالوا"هذا حبل لزينب، تصلي نشاطها فإذا فترت تعلقت به" تصلي ثم ما طالما كانت نشيطة وتجد الهمة تصلي قائمة، فإذا فترت وضعفت تعلقت بالحبل حتى لا تترك الصلاة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حُلُّوه، ليصلي أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد ).
إذًا : مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ، على القول الأول لما فرض الله تعالى على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعلى أصحابه في أول الإسلام قيام الليل قام حتى تفطرت قدماه فقال الله تعالى له :
« مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى » ، « عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » ، «عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً » [المزمل: 20].
القول الثاني: للمفسرين في قوله تعالى : مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ، النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فطره الله تعالى على رحمة عظيمة، ووصفه بكونه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]، وقال: فَبِمَارَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران: 159]، وقال : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، فكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ لشدة رحمته بالناس يحزن على من كفر به ويحزن على من كذبه، لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعلم علم اليقين أن من كذبه فالنار أولى به لا محالة، وأن من كفر بما جاء به دخل النار ولم يخرج منها، فبمقتضى الرحمة التي فطره الله عليها كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحزن على تكذيب المكذبين وإعراض المعرضين حتى كاد الحزن يبلغ منه مبلغًا لا يطيقه، فقال الله تبارك وتعالى له: || مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ||، || لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ || [الشعراء: 3]، || فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ || [فاطر: 8]، لماذا هذا الحزن على كفر الكافرين وتكذيب المكذبين وإعراض المعرضين؟! وأنت ما قصرت في دعوتهم وما قصرت في تربيتهم وإرشادهم
وهدايتهم، حُمِّت رسالة فقمت بها خير قيام وبلغتها على أكمل الوجوه، فلا تحزن على من لم يهتدي بهديك ف|| إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ || [القصص: 56]، || لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ || [البقرة: 272].
الشيخ عبدالعظيم بدوي