معنى قوله تعالى (( إني متوفيك ))
القول الأول (وهو الصحيح) :معنى ذلك : إني قابضك من الأرض , فرافعك إلي
قالوا : ومعنى الوفاة : القبض , لما يقال: توفيت من فلان ما لي عليه, بمعنى: قبضته واستوفيته.
أي قابضك من الأرض حيًا إلى جواري , وآخذك إلى ما عندي بغير موت , ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك .
ذكر من قال ذلك :
عن مطر الوراق : قال: متوفيك من الدنيا , وليس بوفاة موت.
عن الحسن قال : متوفيك من الأرض.
عن ابن جريج قال : فرفعه الله إليه , توفيه إياه , وتطهيره من الذين كفروا .
عن كعب الأحبار قال : ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم , إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده , فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذبه , شكا ذلك إلى الله عز وجل , فأوحى الله إليه : {إني متوفيك ورافعك إلي} وليس من رفعته عندي ميتًا , وإني سأبعثك على الأعور الدجال فتقتله , ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة, ثم أميتك ميتة الحي .
قال كعب الأحبار: وذلك يصدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "كيف تهلك أمة أنا في أولها, وعيسى في آخرها؟".
قلت : قول كعب (ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة) لا يصح لأنه ثبت في الحديث الصحيح أن عيسى عليه السلام يعيش أربعين سنة ثم يموت ويدفنه المسلمون آخر الزمان .
عن محمد بن جعفر بن الزبير: يا عيسى إني متوفيك: أي قابضك.
فال ابن زيد : متوفيك : قابضك , قال : ومتوفيك ورافعك واحد. قال : ولم يمت بعد حتى يقتل الدجال , وسيموت , وقرأ قول الله عز وجل: {ويكلم الناس في المهد وكهلا} قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلاً , قال: وينزل كهلاً .
عن الحسن قال : رفعه الله إليه , فهو عنده في السماء .
القول االثاني :هي وفاة نوم : وكان معنى الكلام على مذهبهم : إني منيمك , ورافعك في نومك
ذكر من قال ذلك :
عن الربيع قال : يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه .
قال الحسن : قال رسول الله لليهود : "إن عيسى لم يمت, وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة".
القول الثالث : إني متوفيك وفاة موت .
وهو قول ضعيف جدًا لا يصح بحال ، والنصارى يزعمون أن اليهود قتلوه وصلبوه ومات ودفن في قبر ثم قام من الموت في اليوم الثالث وكل هذا باطل ، مخالف لقول الله تعالى في كتابه الكريم
القول الرابع : إني رافعك إلي , ومطهرك من الذين كفروا , ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير, والمؤخر الذي معناه التقديم.
والراجح القول الأول ، وهو أن الوفاة بمعنى القبض ، أي أن الله قبضه من الأرض ورفعه إلى السماء ، وهو لا يزال حيًا عليه السلام ، حتى يأذن الله تعالى بنزوله إلى الأرض مرة أخرى فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير .. وسنأتي على ذكر ذلك بالتفصيل مع الأدلة إن شاء الله تعالى .
قال الطبري :
وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال : إني قابضك من الأرض ورافعك إلي
لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال" ثم يمكث في الأرض مدة , ثم يموت , فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه .
ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل لم يكن بالذي يميته ميتة أخرى , فيجمع عليه ميتين , لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم , ثم يحييهم , كما قال جل ثناؤه (( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء))
فتأويل الآية إذًا : قال الله لعيسى : يا عيسى إني قابضك من الأرض ورافعك إلي , ومطهرك من الذين كفروا , فجحدوا نبوتك. وهذا الخبر وإن كان مخرجه مخرج خبر, فإن فيه من الله عز وجل احتجاجا على الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجران, بأن عيسى لم يقتل ولم يصلب كما زعموا, وأنهم واليهود الذين أقروا بذلك وادعوا على عيسى كذبة في دعواهم وزعمهم .