الودود سبحانه وتعالى
*..............*
لوْ لمْ يَكُنْ مِنْ تَحَبُّبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إلى عبادِهِ وإحسانِهِ إليهم وَبِرِّهِ بهم إلاَّ أنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لهم ما في السَّمَاواتِ والأرضِ وما في الدنيا والآخرةِ، ثُمَّ أَهَّلَهُم وَكَرَّمَهم، وَأَرْسَلَ إليهمْ رُسُلَهُ وأَنْزَلَ عليهمْ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ لهم شَرَائِعَهُ، وَأَذِنَ لهم في مُنَاجَاتِهِ كلَّ وقتٍ أَرَادُوا، وَكَتَبَ لهم بكُلِّ حسنةٍ يَعْمَلُونَهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وكَتَبَ لهم بالسيِّئَةِ واحدةً، فإنْ تَابُوا منها مَحَاهَا وأَثْبَتَ مكانَهَا حسنةً ..
وإذا بَلَغَتْ ذُنُوبُ أحدِهِم عَنانَ السماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لهُ، ولوْ لَقِيَهُ بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيَهُ بالتوحيدِ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً لأَتَاهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، وَشَرَعَ لهم التوبةَ الهادمةَ للذنوبِ؛ فَوَفَّقَهُم لِفِعْلِهَا ثُمَّ قَبِلَهَا مِنْهُم .. فَإنَّما الفضلُ كُلُّهُ والنعمةُ كُلُّهَا والإحسانُ كلُّهُ منهُ أَوَّلاً وآخِراً .. أَعْطَى عَبْدَهُ مالَهُ، وقالَ: تَقَرَّبْ بهذا إِلَيَّ أَقْبَلْهُ منكَ ..
فالعبدُ لهُ، والمالُ لهُ، والثوابُ منهُ ..
فهوَ المُعْطِي أوَّلاً وآخِراً، فكيفَ لا يُحَبُّ مَنْ هذا شأنُهُ؟!!
وكيفَ لا يَسْتَحِي العبدُ أنْ يَصْرِفَ شَيْئاً منْ مَحَبَّتِهِ إلى غَيْرِهِ؟!!
ومَنْ أَوْلَى بالحمدِ والثناءِ والمَحَبَّةِ منهُ سبحانَهُ؟!! ومَنْ أَوْلَى بالكَرَمِ والجُودِ والإحسانِ منهُ؟!!
[طريق الهجرتين (23:261,262)]
وروده في القرآن الكريم
*..............*
ورد اسم الله تعالى الودود مرتين في القرآن الكريم:
في قوله تعالى : "وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ"[هود: 90]
وقوله جلَّ وعلا : " إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (*) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ "[البروج: 13,14]
المعنى اللغوي
*..............*
الوُدُّ مصدر المودَّة .. والودُّ هو الحبُّ يكون في جميع مداخل الخير.
وَوَدِدْتُ الشيء أوَدُّ، وهو من الأمنية وشدة التعلُّق بحدوث الشيء .. كما في قوله تعالى :".. يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ .."[البقرة: 96]، أي: يتمنى أن يعيش ألف سنة .. وكقوله تعالى :".. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ "[البروج: 11]
قال ابن العربي "اتفق أهل اللغة على أن المودَّة هي المحبة" .. قال تعالى :".. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً .. "[الروم: 21].
ويأتي أيضًا بمعنى الملازمة مع التعلُّق .. فالودد معناه الوتد؛ لثبوته ولشدة ملازمته وتعلقه بالشيء.
ويأتي على معنى المعية والمرافقة والمصاحبة كلازم من لوازم المحبة .. كما ورد عَنْ ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ "[صحيح مسلم]
أما الحبُّ .. فهو نوعٌ من الصفاء والنقاء والطهُّر والخضوع .. والحُبُّ من القِرط، الذي من شأنه أنه دائم التقلقل ..
كما قال الجنيد "الصادق يتقلَّبُ في اليوم أربعين مرة، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة"[مدارج السالكين (2:274)].. فالمُحبُّ يتقلَّب قلبه بين الخوف والرجاء، والسكينة والقلق، والسرور والحزن .. أما من مات قلبه، تسكن أحواله .. وهذا من علامات النفاق والعياذ بالله تعالى،،
والفرق بين الحُبُّ والودُّ .. أن الحب ما استقر في القلب، والودُّ ما ظهر على السلوك .. فكل ودود مُحب، وليس كل مُحب ودود .. وكل ودود أساسه مشاعر الحب في قلبه.
معنى الاسم في حق الله تعالى
*..............*
قال ابن عباس "الودود هو الرحيم"، وقال البخاري "الودود هو الحبيب"
وقال الزجاج: الودود: فعول بمعنى فاعل، كقولك: غفورٌ بمعنى غافر، وشكور بمعنى شاكر .. فيكون الودود في صفات الله - عز وجل - بمعنى: الذي يودُّ عباده الصالحين ويحبهم.
والمعنى الثاني: أنه - عز وجل - مودود بمعنى مفعول، أي: الذي يوده عباده ويحبونه.
قال الخطابي "وقد يكون معناه أن يُوَدِّدَهم إلى خلقه، كقوله - عز وجل -: " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا " [مريم: 96]"
يقول السعدي: "الودود: الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم، ويحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه ودًا وإخلاصًا وإنابةً من جميع الوجوه"[تيسير الكريم الرحمن (1:947)]
ويقول ابن القيم في النونية:
وهوَ الودودُ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّهُ ... أحبابُهُ والفضلُ لِلْمَنــــــــــــــــَّانِ
وهوَ الذي جَعَلَ المَحَبَّةَ في قُلُو ... بِهِمُ وَجَازَاهُم بِحُبٍّ ثَانِ
هذا هوَ الإحسانُ حَقًّا لا مُعَا ... وَضَةً ولا لِتَوَقُّعِ الشُّكــْرَانِ
لكنْ يُحِبُّ شُكُورَهُم وَشَكُورَهُم ... لا لاحْتِيَاجٍ منهُ للشُّكْــرَانِ
[القصيدة النونية (245)]
عجـــائب ودُّ الله - سبحانه وتعالى -
*..............*
يقول ابن القيم " ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوك بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه.
كفى بك عزًّا أنك له عبد * * * وكفى بك فخراً أنه لك رب" [الفوائد (1:38)]
من أنت أيها العبد الفقير حتى يتقرَّب إليك أغنى الأغنياء؟! .. وماذا تساوي أنت أيها الذليل حتى يتودد إليك العزيز جلَّ في علاه؟!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ .. هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ .. هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ .. حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ"[صحيح مسلم]
ألا تشكو من قسوة القلب؟! .. ألا تعاني هجر القرآن؟! .. ألا يسوؤك حالك مع الله تعالى؟!
ألا يواجهك ضيق العيش؟! .. ألا تبتلى؟! ..
إذًا، هلم ارفع شكواك وقَدِم نجواك في الثلث الأخير من الليل، فاتحة الأحزان وفاتحة الرضوان، وجنات النعيم والكرم الإلهي ..
عجبًا لك أيها العبد! ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونها الحراس والحُجَّاب، وتنسى من بابهُ مفتوحٌ إلى يوم القيامة !!
ومن عجائب ودَّهُ: أن تسبق محبته للعباد محبتهم له ..
فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي يبتديء عباده بالمحبة .. قال تعالى :".. فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ .."[المائدة: 54]
يقول ابن الجوزي "سبحان من سبقت محبته لأحبابه؛ فمدحهم على ما وهب لهم، واشترى منهم ما أعطاهم، وقدم المتأخر من أوصافهم لموضع إيثارهم، فباهى بهم في صومهم، وأحب خلوف أفواههم. يا لها من حالةٍ مصونةٍ! لا يقدر عليها كل طالب، ولا يبلغ كنه وصفها كل خاطب"[صيد الخاطر (1:28)]
ومن عجائب ودَّهُ: أنه يتودد بنعمه لأهل المعاصي، ويقيم بها عليهم الحجة ..
ومن لطائف ودَّهُ: أنه لا يرفعه عن المذنبين، وإن تكررت ذنوبهم، فإذا تابوا منها وعادوا إليه شملهم بمحبته أعظم مما كانوا عليه .. أليس الله يحب التوابين؟
يقول ابن القيم "وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربِّه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الودُّ الذي كان له منه قبل الجناية، واحتجوا في ذلك بأثرٍ إسرائيليٍ مكذوب أن الله قال لداود - عليه السلام -: يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الودُّ فلا يعود.
وهذا كذبٌ قطعاً، فإن الودُّ يعود بعد التوبة النصوح أعظمُ مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الودُّ لما حصلت له محبته، وأيضًا فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبه.
وتأمل سر اقتران هذين الاسمين في قوله تعالى:" إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْودُود "[البروج: 13,14].. تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: لا يعود الودُّ والمحبة منه لعبده أبدًا، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يُهَيِّج القلب السليم ويأْخذ بمجامعه ويجعله عاكفًا على ربِّه الذي لا إله إلا هو ولا ربُّ له سواه .. عكوف المحب الصادق على محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبدًا."[طريق الهجرتين (23:98)]
فالله هو الذي يبدأ بالمغفرة ويُعيدها مرةً أخرى ..
تذنب ثم تتوب إليه بصدق، فيغفر ويصفح .. ليس هذا فحسب بل تزداد محبته لك، أفضل وأعظم مما كانت لك قبل ذلك ..
فكيف لا تحب ربًّا هذه صفته بكل ذرة فيك؟!
من موقع اسلامي