تطهير القلوب من جراحات القلوب
إن الله تبارك وتعالى لم يخلق الإنسان ليستكثر به من قلة،ولا ليستأنس به من وحدة، وإنما خلقه ليعبده طويلا، ويذكره كثيرا، ويسبحه بكرة وأصيلا..
ولا تصح العبادة إلا من أصحاب القلوب الصافية السليمة.. والقلوب يعكر صفوها، ويكدر سلامتها كثرة الذنوب وتتابعها؛فإن العبد إذا أذنب نُكِتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإذا لم يتب وأتبع الذنب بآخر نُكِتت في قلبه نكتة أخرى، وهكذا.. حتى يعلو القلب الران -والعياذ بالله- الذي ذكره المولى عز وجل في قوله تعالى:[كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ][المطففين: 14]؛فيصير القلب في غلاف، ويُحاط بحجاب كثيف من الظلمة، فلا يصل إليه قبس من النور الرباني الذي في كتاب الله:[وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا][الإسراء:82]..وهكذا تجتمع الذنوب على العبد فتصرفه عما خُلِق من أجله فيهلك.. نعوذ بالله من الخذلان.
وحري بالسائرين إلى الله أن يشمروا -أول ما يشمرون- إلى: تطهير القلوب من جراحات الذنوب؛ ليرتقوا في مدارج السالكين، ويفوزوا برضوان رب العالمين..
هــــذا أوانُ الصـلحِ ما أبعـــدَك *** عن بابِ مَن بالخـــيرِ قــد عوَّدَك!
ترجــو الرضـا مِن غيـرِ أبوابِـهِ *** وعن طــريــــقِ اللهِ مـــا أبعــدَك!
والذنوب حجـاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب،وإنما يتم ذلك بالعلم؛ فإنه متى لم يعلم العبد أن الذنوب من أسباب البعد عن المحبوب لم يندم على الذنوب، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع.
قَــــــدِّمْ لنفسِـَك تــوبـــــةً مَـرجُـــــوَّةً *** قبــلَ المماتِ وقـبلَ حَبْسِ الألْسُنِ
بـــادرْ بهــا غَــلْــقَ النفــــوسِ فإنـها *** ذُخـرٌ وغُـنـمٌ للمُنيبِ المحسِـــنِ
فإن العبد إذا عصى ربه عرَّض نفسه لغضب الجبار، وبذلك يصرف الله عنه رحمته. وإذا نزع العبد وتاب وأناب؛ فقد استدعى من الله ما هو أهله سبحانه من الجود والإحسان واللطف والإنعام.. وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين؛ أنه رأى فى بعض السكك بابًا قد فُتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب فى وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا مَن يؤويه غير والدته. فرجع مكسور القلب حزينًا. فوجد الباب مُرتَجًا، فتوسد ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكى وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني؟ ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
فتأمل قول الأم:"لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة".وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :"للهُ أرحمُ بعبادِه مِنَ الوالدةِ بولدِها".فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟
فإن الإنسان لا يخلو عن معصية؛ لو خلا عن معصية بالجوارح لم يَخْلُ عن الهم بالذنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك، لم يَخْلُ عن وساوس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، وإن خلا عن ذلك لم يَخْلُ عن غفلة وقصور في العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، ولا يسلم أحد من هذا النقص، وإنما الخلق يتفاوتون في المقادير.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أيـها الناسُ! توبوا إلى اللهِ واستغفروه؛ فإني أتوبُ إلى الله وأستغفره في كلِّ يومٍ مائةَ مرةٍ". [أخرجه مسلم، وصححه الألباني]
يا نفسُ توبي فإنَّ الـمـوتَ قـــد حــانــا *** واعصي الـهــوى فالـهــوى مازالَ فـتَّــانَـــا
يا نفسُ توبي مِنَ المعاصي وازدجـــري *** واخشي إلــهــنـــا سِـــــــرًّا وإعـــــلانَــــــا
مضى الزمـانُ وولَّى العُـمُــــرُ في لَــعِـبٍ *** يكفيكِ ما قــــد مضـى قـــد كـــان ما كـــــانا
منقول