تفسير ايات الصيام للعلامة ابن عثيمين قال رحمه الله في تفسيره :
عند قوله تعالى(0يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)
التفسير:
{ 183 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } سبق الكلام عليها.
قوله تعالى: { كتب عليكم الصيام } أي فُرض؛ والذي فَرضه هو الله سبحانه وتعالى؛ و{ الصيام } نائب فاعل مرفوع؛ وهو في اللغة الإمساك؛ ومنه قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم: 26] يعني إمساكاً عن الكلام بدليل قولها: {فلن أكلم اليوم إنسياً} [مريم: 26] ؛ وأما في الشرع فإنه التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
قوله تعالى: { كما كتب }؛ «ما» مصدرية؛ والكاف حرف جر؛ وتفيد التشبيه؛ وهو تشبيه للكتابة بالكتابة، وليس المكتوب بالمكتوب؛ والتشبيه بالفعل دون المفعول أمر مطرد، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر»(122): التشبيه هنا للرؤية بالرؤية؛ لا للمرئي بالمرئي؛ لأن الكاف دخلت على الفعل الذي يؤول إلى مصدر.
قوله تعالى: { على الذين من قبلكم } - أي من الأمم السابقة - يعم اليهود، والنصارى، ومن قبلهم؛ كلهم كتب عليهم الصيام؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت، والمدة.
وهذا التشبيه فيه فائدتان:
الفائدة الأولى: التسلية لهذه الأمة حتى لا يقال: كلفنا بهذا العمل الشاق دون غيرنا؛ لقوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39] يعني لن يخفف عنكم العذابَ اشتراكُكم فيه - كما هي الحال في الدنيا: فإن الإنسان إذا شاركه غيره في أمر شاق هان عليه؛ ولهذا قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
[ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي] [وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي] الفائدة الثانية: استكمال هذه الأمة للفضائل التي سبقت إليها الأمم السابقة؛ ولا ريب أن الصيام من أعظم الفضائل؛ فالإنسان يصبر عن طعامه، وشرابه، وشهوته لله عز وجل؛ ومن أجل هذا اختصه الله لنفسه، فقال تعالى: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي»(123).
قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ «لعل» للتعليل؛ ففيها بيان الحكمة من فرض الصوم؛ أي تتقون الله عز وجل؛ هذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم؛ وما جاء سوى ذلك من مصالح بدنية، أو مصالح اجتماعية، فإنها تبع.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أهمية الصيام؛ لأن الله تعالى صدره بالنداء؛ وأنه من مقتضيات الإيمان؛ لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين؛ وأنّ تركه مخل بالإيمان.
2 - ومنها: فرضية الصيام؛ لقوله تعالى: { كتب }.
3 - ومنها: فرض الصيام على من قبلنا من الأمم؛ لقوله تعالى: { كما كتب على الذين من قبلكم }.
4 - ومنها: تسلية الإنسان بما ألزم به غيره ليهون عليه القيام به؛ لقوله تعالى: { كما كتب على الذين من قبلكم}
5 - ومنها: استكمال هذه الأمة لفضائل من سبقها، حيث كتب الله عليها ما كتب على من قبلها لتترقى إلى درجة الكمال كما ترقى إليها من سبقها.
6 - ومنها: الحكمة في إيجاب الصيام؛ وهي تقوى الله؛ لقوله تعالى: { لعلكم تتقون }.
7 - ومنها: فضل التقوى، وأنه ينبغي سلوك الأسباب الموصلة إليها؛ لأن الله أوجب الصيام لهذه الغاية؛ إذاً هذه الغاية غاية عظيمة؛ ويدل على عظمها أنها وصية الله للأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] .
ويتفرع على هذه الفائدة اعتبار الذرائع؛ يعني ما كان ذريعة إلى الشيء فإن له حكم ذلك الشيء؛ فلما كانت التقوى واجبة كانت وسائلها واجبة؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يبتعد عن مواطن الفتن: لا ينظر إلى المرأة الأجنبية؛ ولا يكلمها كلاماً يتمتع به معها؛ لأنه يؤدي إلى الفتنة، ويكون ذريعة إلى الفاحشة؛ فيجب اتقاء ذلك؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من سمع بالدجال أن يبتعد عنه حتى لا يقع في فتنته(124).
8- ومن فوائد الآية: حكمة الله سبحانه وتعالى بتنويع العبادات؛ لأننا إذا تدبرنا العبادات وجدنا أن العبادات متنوعة؛ منها ما هو مالي محض؛ ومنها ما هو بدني محض؛ ومنها ما هو مركب منهما: بدني، ومالي؛ ومنها ما هو كفّ - ليتم اختبار المكلف؛ لأن من الناس من يهون عليه العمل البدني دون بذل المال؛ ومنهم من يكون بالعكس؛ ومن الناس من يهون عليه بذل المحبوب؛ ويشق عليه الكف عن المحبوب ومنهم من يكون بالعكس؛ فمن ثَم نوَّع الله سبحانه وتعالى بحكمته العبادات؛ فالصوم كف عن المحبوب قد يكون عند بعض الناس أشق من بذل المحبوب؛ ومن العجائب في زمننا هذا أن من الناس من يصبر على الصيام، ويعظمه؛ ولكن لا يصبر على الصلاة، ولا يكون في قلبه من تعظيم الصلاة ما في قلبه من تعظيم الصيام؛ تجده يصوم رمضان لكن الصلاة لا يصلي إلا من رمضان إلى رمضان - إن صلى في رمضان؛ وهذا لا شك خطأ في التفكير؛ لكن الصلاة حيث إنها تتكرر كل يوم صار هيناً على هذا الإنسان تركها؛ والصوم يكون عنده تركه صعباً؛ ولهذا إذا أرادوا ذم إنسان قالوا: إنه لا يصوم، ولا يصلي - يبدؤون بالصوم.
القــــــرآن
{)أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:184)
التفسير:
{ 184 } قوله تعالى: { أياماً } مفعول لقوله تعالى: {الصيام} [البقرة: 183] ؛ لأن الصيام مصدر يعمل عمل فعله - أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات؛ و{ أياماً }: نكرة؛ والنكرة تفيد القلة، وتفيد الكثرة، وتفيد العظمة، وتفيد الهون - بحسب السياق؛ لما قرنت هنا بقوله تعالى: { معدودات } أفادت القلة؛ يعني: هذا الصيام ليس أشهراً؛ ليس سنوات؛ ليس أسابيع؛ ولكنه أيام معدودات قليلة؛ و{ معدودات } من صيغ جمع القلة؛ لأن جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم من صيغ جمع القلة؛ يعني: فهي أيام قليلة.
قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } كالاستثناء من قوله تعالى: {كتب عليكم} [البقرة: 183] ؛ لأن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم} [البقرة: 183] يشمل المريض، والمسافر، والقادر، والعاجز.
و{ من } شرطية؛ و{ كان } فعل الشرط؛ وجملة: { فعدة من أيام أخر } جواب الشرط؛ و «عدة» مبتدأ، والخبر محذوف؛ والتقدير: فعليه عدة؛ ويجوز أن تكون «عدة» خبراً، والمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالواجب عدة؛ أو فالمكتوب عدة.
وقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً } يعني مرضاً يشق به الصوم؛ أو يتأخر به البرء؛ أو يفوت به العلاج، كما لو قال له الطبيب: خذ حبوباً كل أربع ساعات، وما أشبه ذلك؛ ودليل التخصيص بمرض يشق به الصوم ما يُفهم من العلة.
وقوله تعالى: { أو على سفر } أي السفر المبيح للفطر؛ والحكمة في التعبير بقوله: { على سفر } - والله أعلم أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام، ويباح له الفطر؛ لأنه على سفر، وليست نيته الإقامة، كما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فإنه أقام في مكة تسعة عشر يوماً وهو يقصر الصلاة(125)، وأفطر حتى انسلخ الشهر(126).
وقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر } أي أيام مغايرة.
قوله تعالى: { وعلى الذين يطيقونه } أي يستطيعونه، وقال بعض أهل العلم: { يطيقونه } أي يطوَّقونه؛ أي يتكلفونه، ويبلغ الطاقة منهم حتى يصبح شاقاً عليهم؛ وقال آخرون: إن في الآية حذفاً؛ والتقدير: وعلى الذين لا يطيقونه فدية؛ وكلاهما ضعيف؛ والثاني أضعف؛ لأن هذا القول يقتضي تفسير المثبت بالمنفي؛ وتفسير الشيء بضده لا يستقيم؛ وأما القول الأول منهما فله وجه؛ لكن ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع يدل على ضعفه: «أنه أول ما كتب الصيام كان الإنسان مخيراً بين أن يصوم؛ أو يفطر، ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن...}»(127)؛ وكذلك ظاهر الآية يدل على ضعفه؛ لأن قوله بآخرها: { وأن تصوموا خير لكم } يدل على أنهم يستطيعون الصيام، وأنه خوطب به من يستطيع فيكون ظاهر الآية مطابقاً لحديث سلمة؛ وهذا هو القول الراجح أن معنى { يطيقونه}: يستطيعونه.
قوله تعالى: { فدية } مبتدأ مؤخر خبره: { على الذين يطيقونه }؛ و{ فدية } أي فداء يفتدي به عن الصوم؛ والأصل أن الصوم لازم لك، وأنك مكلف به، فتفدي نفسك من هذا التكليف والإلزام بإطعام مسكين.
قوله تعالى: { طعام مسكين } عطف بيان لقوله تعالى: { فدية } أي عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: { طعام مساكين } بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع، فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً.
وفي قوله تعالى: { فدية طعام مساكين } ثلاث قراءات؛ الأولى: { فديةُ طعامِ مساكينَ } بحذف التنوين في {فديةُ }؛ وبجر الميم في { طعام }؛ و{ مساكينَ } بالجمع، وفتح النون بلا تنوين؛ الثانية: { فديةٌ طعامُ مسكينٍ}؛ بتنوين { فديةٌ } مع الرفع؛ و{ طعامُ } بالرفع؛ و{ مسكينٍ } بالإفراد، وكسر النون المنونة؛ الثالثة: { فديةٌ طعامُ مساكينَ }؛ بتنوين { فديةٌ } مع الرفع؛ و{ طعامُ } بالرفع؛ و{ مساكينَ } بالجمع، وفتح النون بلا تنوين.
وقوله تعالى: { طعام مسكين }؛ المراد بالمسكين من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة.
وقوله تعالى: { فمن تطوع خيراً }؛ { تطوع } فعل الشرط؛ وجوابه جملة: { فهو خير له }؛ وقوله تعالى: { خيراً } منصوب على أنه مفعول مطلق؛ والتقدير: فمن تطوع تطوعاً خيراً؛ أي فمن فعل الطاعة على وجه خير فهو خير له؛ ويحتمل أن تكون { خيراً } مفعولاً لأجله؛ والمعنى: فمن تطوع يريد خيراً؛ والمراد على كلا التقديرين واحد؛ يعني: فمن فعل الطاعة يقصد بها الخير فهو خير له؛ ومعلوم أن الفعل لا يكون طاعة إلا إذا كان موافقاً لمرضاة الله عز وجل بأن يكون خالصاً لوجهه موافقاً لشريعته؛ فإن لم يكن خالصاً لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ وإن كان خالصاً على غير الشريعة لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ لأن الأول شرك؛ والثاني بدعة.
قوله تعالى: { فهو خير له }: اختلف في { خير } هل نقول: هي للتفضيل؛ أي خير له من سواه؛ أو نقول: إن { خير } اسم دال على مجرد الخيرية بدون مفضل، ومفضل عليه - وهذا هو الأقرب - ويكون المراد أن من تطوع بالفدية فهو خير له؛ ومطابقة هذا المعنى لظاهر الآية واضح.
قوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم }: المراد بالخير هنا التفضيل؛ يعني أن تصوموا خير لكم من الفدية؛ وهذا يمثل به النحويون للمبتدأ المؤول: فإن قوله تعالى: { أن تصوموا } فعل مضارع مسبوك مع { أن المصدرية بمصدر؛ والتقدير: صومكم خير لكم - يعني من الفدية.
قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }؛ هذه جملة مستأنفة؛ والمعنى: إن كنتم من ذوي العلم فافهموا؛ و{ إن} ليست شرطية فيما قبلها - يعني ليست وصلية - كما يقولون؛ لأنه ليس المعنى: خيراً لنا إن علمنا؛ فإن لم نعلم فليس خيراً لنا؛ بل هو مستأنف؛ ولهذا ينبغي أن نقف على قوله تعالى: { خير لكم }.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الصوم أيامه قليلة؛ لقوله تعالى: { أياماً معدودات ].
2 - ومنها: التعبير بكلمات يكون بها تهوين الأمر على المخاطب؛ لقوله تعالى: { أياماً معدودات }.
3 - ومنها: رحمة الله عز وجل بعباده؛ لقلة الأيام التي فرض عليهم صيامها.
4 - ومنها: أن المشقة تجلب التيسير؛ لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ لأن المرض، والسفر مظنة المشقة.
5 - ومنها: جواز الفطر للمرض؛ ولكن هل المراد مطلق المرض - وإن لم يكن في الصوم مشقة عليه؛ أو المراد المرض الذي يشق معه الصوم، أو يتأخر معه البرء؟ الظاهر الثاني؛ وهو مذهب الجمهور؛ لأنه لا وجه لإباحة الفطر بمرض لا يشق معه الصوم، أو لا يتأخر معه البرء؛ هذا وللمريض حالات:
الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر.
الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله.
الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [النساء: 29] .
6 - ومن فوائد الآية: جواز الفطر في السفر؛ لقوله تعالى: { أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث:
الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر، كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة»(128)؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ ولأنه يصادف شهر الصوم - وهو رمضان.
الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر»(129)؛ فنفى النبي صلى الله عليه وسلم البر عن الصوم في السفر.
فإن قيل: إن من المتقرر في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وهذا يقتضي نفي البر عن الصوم في السفر مطلقاً؟.
فالجواب: أن معنى قولنا: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» يعني أن الحكم لا يختص بعين الذي ورد من أجله؛ وإنما يعم من كان مثل حاله؛ وقد نص على هذه القاعدة ابن دقيق العيد في شرح الحديث في العمدة؛ وهو واضح.
الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه، والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل له: إن بعض الناس قد صام فقال صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة! أولئك العصاة!»(130)؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب.
7 - ومن فوائد الآية: أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف: فما عده الناس سفراً فهو سفر؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل.
8 - ومنها: أن المتهيئ للسفر كالخارج فيه - وإن كان في بلده؛ فإنه يجوز أن يفطر؛ وكان أنس بن مالك يفعل ذلك، ويقول: «السنة»(131)؛ لكن هذا الحديث فيه مقال؛ لكن على رأي من أثبته يقول: الإنسان إذا عزم على سفر أصبح مفطراً فقالوا: هذا من خير من كونه يصوم ثم يفطر لأنه لم يدخل في العبادة أصلاً لكن جمهور أهل العلم على خلاف هذا القول وعلى خلاف بينهم أيجوز لمن سافر في خلال اليوم أن يفطر الصحيح أنه يجوز لدلالة السنة على ذلك
- ومن فوائد الآية: أن الظاهرية استدلوا بها على أن من صام في السفر لم يجزئه؛ لقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر }، فأوجب الله سبحانه وتعالى على المريض، والمسافر عدة من أيام أخر؛ فمن صام وهو مريض، أو مسافر صار كمن صام قبل دخول رمضان، وقالوا: «إن الآية ليست فيها شيء محذوف»؛ وهذا القول لولا أن السنة بينت جواز الصوم لكان له وجه قوي؛ لأن الأصل عدم الحذف؛ لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الحذف متعين، وتقدير الكلام: فمن كان مريضاً، أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في رمضان في السفر والصحابة معه منهم الصائم، ومنهم المفطر، ولم يعب أحد على أحد(132)؛ ولو كان الصوم حراماً ما صامه النبي صلى الله عليه وسلم،
ولأنكر المفطر على الصائم.
10 - ومن فوائد الآية: أنه لو صام عن أيام الصيف أيام الشتاء فإنه يجزئ؛ لقوله تعالى:
{ فعدة من أيام أخر وجهه: أن { أيام } نكرة.
11 - ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى في التدرج بالتشريع، حيث كان الصيام أول الأمر يخير فيه الإنسان بين أن يصوم، ويطعم؛ ثم تعين الصيام كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
12 - ومنها: أن من عجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى جعل الإطعام عديلاً للصيام حين التخيير بينهما؛ فإذا تعذر الصيام وجب عديله؛ ولهذا ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية في الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكيناً(133).
13 - ومنها: أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله تعالى أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف.
14 - ومنها: أنه لا فرق بين أن يملّك الفقير ما يطعمه، أو يجعله غداءً، أو عشاءً؛ لأن الكل إطعام؛ وكان أنس بن مالك حين كبر يطعم أدُماً، وخبزاً(134).
15 - ومنها: أن ظاهر الآية لا يشترط تمليك الفقير ما يطعم؛ وهو القول الراجح؛ وقال بعض أهل العلم: إنه يشترط تمليكه؛ فيعطى مداً من البر؛ أو نصف صاع من غيره؛ وقيل: يعطى نصف صاع من البر، وغيره؛ واستدل القائلون بالفرق بين البر وغيره بما قاله معاوية في زكاة الفطر: «أرى المد من هذه - يعني البر - يعدل مدين من الشعير»(135) فعدل به الناس، وجعلوا الفطرة من البر نصف صاع(136)؛ واستدل القائلون بوجوب نصف صاع من البر، وغيره بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه حين أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بحلق رأسه وهو محرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له مبيناً المجمل في قوله تعالى:
{ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}
[البقرة: 196] ،
فقال في الصدقة:
«أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع»
(137)؛ ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين طعام وآخر.
16 - ومن فوائد الآية: أن طاعة الله -
تبارك وتعالى - كلها خير؛ لقوله تعالى:
{ فمن تطوع خيراً فهو خير له }.
17 - ومنها: ثبوت تفاضل الأعمال؛ لقوله تعالى:
{ وأن تصوموا خير لكم }؛
وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛
فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال؛
وهو ما دل عليه الكتاب، والسنة،
وإجماع السلف، والواقع؛ قال الله تعالى:
{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح
وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا
من بعد وقاتلوا وكلاًّ وعد الله الحسنى}
[الحديد: 10] ،
وقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًّا وعد الله الحسنى وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة}
[النساء: 95، 96] ؛ والنصوص في هذا كثيرة.
18 - ومن فوائد الآية: التنبيه على فضل العلم؛
لقوله تعالى: { إن كنتم تعلمون }.
القــــرآن