بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تعالى الحبيب محمد صلى الله عليه واّله وسلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
إن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر، وبه يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم، وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والعبد يبتلى حتى يبلغ قريبًا من مقام الأنبياء والمرسلين. قال الله سبحانه وتعالى عن عباد الرحمن: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾.
تعريف الصبر:
الصبر لغةً: هو المنع والحبس، وهو نقيض الجزع، يقال: صبر صبرًا، فهو صابر، وصبَّار، وصبِّير، وصبور. وسمي الصوم صبرًا، لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح.
وفي الاصطلاح: هو خُلقٌ فاضلٌ من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل. وهو قوّةٌ من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها.
وقيل: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله، لا إلى الله؛ لأن الله تعالى أثنى على أيوب عليه السلام بالصبر، بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾. مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
منزلة الصبر:
الصبر نصف الدين، وهو بمنزلة الرأس من الجسد بالنسبة لهذا الدين، وكما أنه لا جسد بلا رأس؛ كذلك لا دين بلا صبر.
والصبر واجب بإجماع العلماء؛ ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. فجاء بصيغة الأمر، والأمر للوجوب. ولا يمكن للمؤمن أن يجتاز مراحل هذه الدنيا على الصراط غير صابر، ولا يرتفع إلى المقام عند ربه غير صابر شاكر.
ولقد ذكر الله عز و جل الصبر في القرآن حوالي تسعين موضعًا، وذكره سبحانه وتعالى على ستة عشر نوعًا؛ لكل نوع منها فائدة، أو ذكر لها ستة عشر فائدة في كتابه العزيز أهمها: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
أنواع الصبر:
الصبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها:
وذلك بالصبر على أدائها، وإصابة الحق فيها، بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه و سلم، والصبر على المداومة عليها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. وقال عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
قال الحسن البصري رحمه الله: «أمِروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا شدة ولا رخاء، وحتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يفتنون دينهم، وأما المرابطة فهو المداومة في مكان العبادة والثبات على أمر الله فلا يضيع».
الصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾. وأكثر الناس يقدر على فعل الطاعة ويصبر عليها، ولكنه لا يصبر عن المعصية، فلقلّة صبره عن المحرمات لا يوصف بأنه من الصابرين، ولا ينال درجة المجاهدين الصابرين، فلا يعصم من ورود الشهوات إلا الصبر القويّ والورع الحقيقي، والمسلم إذا لم يكن مُتّصفا بالصبر، فقد تأتي عليه ساعة تلوح له فيها لذّة عاجلة، أو منفعة قريبة، أو شهوة عابرة، أو كبيرة موبقة، فتخور عزيمته، وتضعف إرادته، ويلين صبره، ويغشى المحرّم، ويقع في الموبقات، ويشقى شقاء عظيمًا، ويلقى عذابًا أليما.
الصبر على الأقدار والمصائب حتى لا يسخطها:
وذلك الصبر لا يكون محمودًا إلا مع الاحتساب؛ بأن يعلمَ بأنّ المصيبة مقدّرة من الله سبحانه وتعالى، وأنّ من صبر أُجِر وأمر الله نافذ، ومن جزع وتسخّط أثم وأمر الله نافذ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نِعمَ العِدلان، ونِعمتِ العلاوة». يعني: أن قول الله تبارك وتعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ عدلان، يشبَّهان بعدلَي البعير في الحمل، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ هي العلاوة، وهو ما يكون بين العِدلين.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إذا أراد الله بعبده خيرًا عجّل له العقوبةَ في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه، حتى يُوافَى به يومَ القيامة». «وإنَّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط».
وإذا اعترتك بلية فاصبر لها
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
صبر الكريم فإنه بك أكرم
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
حاجتنا إلى الصبر:
ومما يدفعنا للصبر، حاجتنا له، والتي تتمثل في أمرين:
أولا: طبيعة الحياة الدنيا:
فالحياة الدنيا دار بلاء، وهموم، وغموم، تذيب القلب، وتطحن البدن، فيعقوب عليه السلام فقد بصره من كثرة بكائه لفقده يوسف عليه السلام، فلم يجد غير الشكوى إلى الله سبحانه وتعالى، والصبر ملجأ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.
وقد يمتحن الإنسان بالشيء وضده، كأن يكون الامتحان بالغنى والصحة، والنعمة الكثيرة، كما يكون بالفقر والأمراض وغيرها، ولهذا كان سليمان عليه السلام يقول كما حكى الله عنه في قوله سبحانه وتعالى: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾.
وعلى هذا فما دامت الحياة امتحانًا كلّها سواء بالسراء، أو الضراء، فما علينا إلا أن نكرس جهودنا للنجاح في هذا الاختبار، لنكون إن شاء الله سبحانه وتعالى من السعداء.
الصبر مقتضى الإيمان بالقدر:
فنحن بحاجة إلى الصبر لأن مشيئة الله نافذة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن الإنسان حتى يعترض على قضاء الله وأمره؟! جاء في الحديث القدسي: «عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد فإذا رضيت عما أريد كفيتك ما تريد وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد».
والإيمان هو صلة بين الإنسان وربه عز و جل، ولا بد من خضوع هذه الصلة الإيمانية للابتلاء، لتمحيصها، ومعرفة صدقها من كذبها، وإن كان علم الله محيطًا بظواهر الأمور وبواطنها، كما قال الله عز و جل: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾. ولكن لحكمة الله وعدله، شاء أن يكون حساب الإنسان على عمله الشخصي، الذي يثبت للشخص ولغيره صدقه من كذبه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعاملنا بلطفه لا بعدله، فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
فضائل الصبر:
حث الإسلام على الصبر:
لقد اهتم الإسلام بالصبر، ورفع منزلته، وأثنى على المتحلين به، وهذا يدل على عظم أمره، لأنه أساسُ كثير من الفضائل، بل هو أصلها، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليه، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد، والعفافُ هو الصبر عن الشهوات، والحلم هو الصبر على المثيرات. لذا فالصبر من الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
الصبر من خلق الأنبياء:
وكان على رأس قائمة الأنبياء في هذا المجال خليل الرحمن، إبراهيم عليه السلام، الذي حكى الله عز و جل عن صبره في الدعوة إلى الله، ثم صبره وابنه إسماعيل حينما ابتلاهما الله عز و جل بالذيح: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
وكذلك أيوب عليه السلام وقصته مع ما ناله من البلاء، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.
ثم يعقوب وابنه يوسف عليه السلام، حيث صبر يعقوب عليه السلام وقد فقد ابنه من بين يديه، فقال لهم: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾. ولما تكرر فقدانه لأخي يوسف الأصغر، لم يتدل موقفه، فقال عليه السلام: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾. وما زال يوسف يتبدل به الحال من ابتلاء إلى ابتلاء، وهو صابر، حتى أتته المثوبة الإلهية، ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وهذا موسى بن عمران عليه السلام كم عالج من بني إسرائيل، وكم صابرهم وصبر على ما أصابه منهم، ونال ما نال، يقول في حقه المصطفى صلى الله عليه و سلم: «يرحم الله أخي موسى، لقد أوذي بمثل ما أوذيت به فصبر». ولقد ضرب لنا نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أروع الأمثال في الصبر.
ثناء الله عز و جل على الصبر والصابرين:
أثنى الله عز و جل على أهل الصبر، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾. كما أوجب سبحانه وتعالى للصابرين محبته، فقال [جل جلاله: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾. وأخبر أنه خير لأهله.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه خير ما يعطاه العبد، فقال صلى الله عليه و سلم: «وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر».
الصبر مقرون بمراتب الإيمان:
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد»، وأردف ذلك بقوله: «ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له». وذلك لأن أكثر أخلاق الإيمان لا تتم إلا بالصبر، وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: «الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر». وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو: تملأ – ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك».
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له».
كما يتفاضل المؤمنون فيما بينهم بمقدار صبرهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لمسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم».
للصبر أجر عظيم:
أخبر سبحانه وتعالى أن الصابرين ينالون مزيدًا من الفضل والرحمة والثواب في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وجاءت البشرى من الله سبحانه وتعالى، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
وقد جاء في الأثر: «يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان، ويصب عليه الحسنات صبًا، فيتمنى أهل الدنيا – أهل العافية – لو كانت أجسادهم تُقرض بالمقاريض مما يرون لأهل الصبر من الخير والعافية والمنزلة».
ومما نطقت به السنة النبوية من هذا الأجر:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه».
الصبر راحة للنفس وزيادة في العزم:
فالصبر وحده هو الذي يعصم من التخبط، ويجعل المسلم يسير متزنًا وفق منهج الإسلام في كل شؤون الحياة، فلا بد أن يوطن المسلم نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، والصبر – كما سبق – ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، وذلك هو الحياة كلها.
فالمؤمن يحتاج إلى الصبر على الطاعة لأن النفس بطبعها تنفر من العبودية، وهي شاقة على النفس مطلقًا، ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل، كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببهما جميعًا كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد.
الصبر من عناصر الرجولة:
فالصّبر – يا عباد الله – من عناصر الرجولة الناضجة، فإن أثقال الحياة لا يقوى عليها المهازيل وأنصاف الرجال، ومن أجل هذا كان نصيب القادة العظماء من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من صفات الرجولة وبلاء المعارك وتوجيه الناس إلى خالقهم وتجنيبهم الويلات والنكبات ومواطن العطب، ولما أدوا من أعمال عظيمة؛ ولهذا لما سئل رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال رسول الله: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة».
الصبر ضرورة حياتية:
والصبر – أيها المؤمنون – ضرورة حياتية قبل أن يكون فريضة دينية شرعية، فلا نجاح في الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر، فلا تحقق الآمال ولا تنجح المقاصد ولا يؤتي عمل أُكله إلا بالصبر، فلولا الصبر ما حصد الزارع زرعه، وما جنى الغارس ثمره، ولا حصَّل الساعي قصده، فكل الناجحين في الدنيا بمقاصدهم إنما حققوا آمالهم بالصبر؛ استمرؤوا المُرّ واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب ومشوا على الشوك، ووطنوا أنفسهم على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج دون ملل، ومواجهة العقبات دون كلل، مضوا في طريقهم غير وانين ولا متوقفين، حاديهم في سيرهم: «من صبر ظفر». وشاعرهم يهتف مرددًا:
إني رأيت وفي الأيام تجربة
وقلّ من جد في أمر يحاوله
للصبر عاقبةً محمودةَ الأثر
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
فالصبر طريق المجد وسبيل المعالي، فالرفعة في الدنيا لا تنال إلا بركوب المشقات وتجرّع الغصص، فمن اختطّ طريقًا يبلغ به أمانيه غير هذا فقد أخطأ الطريق وضلّ السبيل، وما أصدق قول القائل:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
مواطن مأمور فيها بالصبر:
أمر سبحانه وتعالى بالتزام الصبر أمرًا مطلقًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾. وأمر بالصبر في أمور مخصوصةٍ لشدّة الحاجة إلى الصبر فيها:
الصبر على أذى الفاجرين:
قال تبارك وتعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى:
كما صَبَر صلى الله عليه و سلم في الدعوة إلى الله، والصبر على ما يترتّب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأذى والألم لما في ذلك من المشقّة، قال تبارك وتعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
الصبر في معاملة الناس:
بالصبر على مَن تتعامل معه في كلّ الأعمال لا بدّ من صبر، فالصبرُ يعينك على مصالحِ دينِك ومصالحِ دنياك، ويذلّل أمامَك الصّعاب، ويهوِّن عليك المشاقّ، ويجعلك مرتاحَ البالِ طيّبَ النفس منشرحَ الصدر، أمّا الضجَر وقلّة الصبرِ فإنّها لا تفيد خيرًا، تقضي على قوّتِك، وتملأ قلبَك همًّا وحزنًا، فتدرّع بالصّبر في كلّ الأحوال، وعسى الله أن يعينَنا وإيّاكم على كلّ خير.
ومن ذلك الأمر بالصبر لمن ولي شيئًا من أمر المسلمين قليلا كان أو كثيرًا، فقد بلغ النبي صلى الله عليه و سلم عن قوم أنهم يؤذونه بالكلام من المنافقين، فقال صلى الله عليه و سلم: «لقد أوذي أخي موسى بأكثر من هذا فصبر».
ومن ذلك صبر المسؤول على من تحت يده من موظفين، فلا بد من صبر على الناس، وليس كل أحد يقوم بواجبه خير قيام، وأخلاق الناس متفاوتة، وطباعهم متغايرة، فلا بد من صبر على الجميع، ونظر في عواقب الأمور، فإن الصابر يدرك بصبره الخير الكثير، فلا بد من صبر على الأمور كلها، ومن فقد الصبر فقد الخير في أموره كلها.
الصبر على الاتهام:
قد تُبتلَى في عِرضك، وقد يسلَّط عليك من لا حياءَ ولا إيمانَ عندَه، فصبّر نفسَك، وكُن متدرِّعًا بالصّبر، ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
الصبر في العشرة الزوجية:
صبر الرجل على امرأته وأخطائها، وشيء من تقصيرها لا بد من ذلك، فإنك إن أردت المرأة كاملة في كل الصفات لن تستقيم لك، والمرأة خلقت من ضلع، وأعوج ما في الضلع أعلاه، فلا بد من صبر عليها، ورضًا بشيء من أخلاقها، «لا يَفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقًا رضي منها آخر».
صبر المرأة على زوجها، فلا بد للمرأة أن تصبر على زوجها، ولا تعاتبه في كل الأخطاء، بل تتحمل ما يمكنها تحمله، فذاك أدعى لدوام المحبة والمودة.
الصبر في تربية الأبناء:
فقد ترى مِن أولادك نَكدًا عليك، وقد يضجِرونك، وقد يكدّرون حياتَك، وقد يكون منهم طلباتٌ كثيرة إلى آخره، فصبرُك عليهم وحلمُك عليهم وعلاجك الأمرَ الحاضِر بالصبر والتحمّل هذا يعينك، وأمّا ضجرُك وقلّة صبرِك والتسلّط عليهم بالدّعاء عليهم فربّما تُستَجاب دعوة، فتمحقهم تلك الدّعوة، ولذا يقول صلى الله عليه و سلم: «لا تَدعوا على أنفسِكم ولا على أهليكم ولا على أموالِكم فتوافقوا مِن الله ساعةَ إجابة».
الصبر على من لك عنده حقوق:
فصبرك على الغريم والمدين لا بد منه، سيما إن كان معسرًا، فإن الصبر مطلوب، ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. وفي الحديث قال صلى الله عليه و سلم: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله».
من آداب الصبر:
الصبر عند الصدمة الأولى:
فمن السنة ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «الصبر عند الصدمة الأولى»، وفي رواية: أنه صلى الله عليه و سلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال: «اتقي الله، واصبري»فقالت: وما تبالي بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله! لم أعرفك. قال: «إنما الصبر عند أول الصدمة»، أو قال: «عند أول الصدمة».
الصبر على المفقود لأنه ملك لله عز و جل:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت بنت النبي صلى الله عليه و سلم إليه: أن ابنًا لي قبض، فائتنا، فأرسل يقري السلام، ويقول صلى الله عليه و سلم: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمىً، فلتصبر ولتحتسب».
التخلق بالصبر لمن لا يطيقه:
أمر الله سبحانه وتعالى المسلم أن يستعين بالله في التخلّق بالصبر، والتمسّك بالطاعة، فقال الله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾. وأمر الله سبحانه وتعالى المسلم أن يعوّد نفسه على خلُق الصبر في كلّ حالةٍ، فأمره بذلك، فإنّ العادةَ تساعد على الخُلُق، ففي الصحيحين قال صلى الله عليه و سلم: «ومن يتصبّر يصبِّره الله، ومن يستغن يُغنه الله».
أيا صاحبي إن رمت أن تكسب العلا
عليك بحسن الصبر في كل حالة
وترقى إلى العلياء غير مزاحم
فما صابر فيما يروم بنادم
من الأسباب المعينة على الصبر:
التفكر في فضائل الصبر:
بأن يتذكر المرء المصاب ما في مصابه من فوائد ولطائف منجية له، فربما كان على ذنب عظيم، أوجب سخط الله، فَرَقّ قلبه بعد مصابه، وتاب، وأناب إلى الله، ورجع إلى نفسه، فعالج تقصيرها في ذات الله، وربما لم يتحقق له ذلك إلا بوقوعه في المصيبة.
ومن فضائله ما يلقاه الصابر من جزاء، وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت: إني أُصرع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي، قال صلى الله عليه و سلم: «إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك»، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها.
معرفة أن الابتلاء من علامات حب الله للعبد:
وذلك سر قوله صلى الله عليه و سلم: «من يرد الله به خيرًا يصب منه». وذلك أن المتعرّض لآلام الحياة يدافعها وتدافعه، وهو أرفع عند الله تعالى درجات من المنهزم القابع، بعيدًا لا يخشى شيئًا، ولا يخشاه شيء، ولهذا ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم المثل في المؤمن الصابر السارب في الحياة والكافر العاجز الهارب من الأعباء، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرمها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها، لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة».
توطين النفس على الابتلاء:
فآدم عليه السلام سجدت له الملائكة، ثم بعد بُرهة يُخرج من الجنة. وما الابتلاء إلا عكس المقاصد وخلاف الأماني، والكل حتم يُتجرّع مرارته، ولكن ما بين مقِلٍّ ومستكثر، يُبتلى المؤمن ليهذَّب لا ليعذَّب، فتن في السراء، ومحن في الضراء، ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. والمكروه قد يأتي بالمحبوب، والمرغوب قد يأتي بالمكروه، فلا تأمن أن توافيك المضرة من جانب المسرة، ولا تيأس أن تأتيك المسرة من جانب المضرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
التأمل، والتدبر، والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه:
ففيهما ما تقرّ به الأعين، وتسكن به القلوب، وتطمئن إليه النفوس، ولو قارن المصاب بين ما أخذ منه وما أعطي فلا مقارنة فإنه سيجد أن ما أعطي من الأجر، والثواب، أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وقِفُوا مع آية عظيمة في كتاب الله كفى بها واعظة ومسلية، عند وقوع المصائب: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبة وأخلفه خيرا منها»، قالت: ولما توفي أبو سلمة؛ قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله؟! ثم عزم الله علي فقلتها، قالت: فتزوجت رسول الله.
تذكر المصيبة العظيمة بموت الرسول:
إن كل مصيبة دون مصيبتنا بموت النبي صلى الله عليه و سلم تهون، فبموته عليه الصلاة والسلام انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوّات، وبموته ظهر الفساد في البر والبحر، وتذكر ذلك تسلية وعزاء للمصائب يقول في الحديث الصحيح: «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب».
ويقول فيما صح عنه في سنن ابن ماجه: «يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي».
فاصبر لكل مصيبة وتجلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها
من لم يصب ممن ترى بمصيبة؟
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها
واعلم بأن المرء غير مخلد
نوبُ اليوم تُكشَف في غدِ
هذا سبيل لستَ عنه بأوحد
فاذكر مصابك بالنبي محمد
أن يعلم المصاب علم اليقين أن كل مصيبة بقدر:
قال سبحانه وتعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.
فيا أيها المصاب، المصيبة واقعة، فوطن نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله عز و جل وقضائه وقدره فإن الأمر له، فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك أو يضروك فلن يحصل ذلك إلا بشيء قد كتبه الله لك أو عليك.
العلم بأن الجزع من المصيبة لا يردها بل يضاعفها:
فالمصاب إذا جزع فجزعه مصيبة ويغضب ربه، ويحبط أجره، كما في حديث النبي صلى الله عليه و سلم، حيث مر بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري»، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتيَ، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي فأتت باب النبي فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، وسوف أصبر يا نبي الله، فقال لها: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها
لا تشكونّ إلى العباد فإنما
صبر الكريم فإن ذلك أسلم
ثوب السكوت فإن ذلك أسلم
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
العلم بتفاوت المصائب في الدنيا:
ومن حصل له الأدنى من المصائب يتسلى بالأعلى والأعظم من المصائب التي أصيب بها غيره، من فقد للدين وإهمال وتقصير فيه، فهذا أعظم المصيبة، ويجب أن تعلم أيها المصاب أن هذا هو حال الدنيا إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما أحزنت شهورا، وإن متعت يسيرا قنعت طويلا.
حسن التعزية للمصاب:
فإن الكلمة الطيبة للمصاب يثبت بها بإذن الله ويعان، ويعود الصبر عليه سهلا يسيرا، والمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه، فإذا وجد هذا يعزيه، وهذا يسليه، سهلت عليه الأمور العظام، وكشف ما به من مصيبة، وفي الحديث الحسن أن النبي قال: «ما من مؤمن يعزي أخاه بما به إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة».
ولا بد من أن تكون التعزية في محلها مناسبة، فإن من الناس من إذا عزى ذكر باللوعة والمصيبة، من وفاة أو مرض ونحوهما، وما أروع الهدي النبوي والأدعية النبوية الكريمة في العزاء للمصيبة، أما كثرة الأسئلة عن المصيبة فمما يؤجج الأحزان ويؤدي إلى الشكوى إلى الخلق، وهم عاجزون عن تقديم الشفاء، فعليك أيها المصاب بكثرة الأدعية واللجوء إلى الله تعالى في كل حالك.