بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين , اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً , وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً , وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الموت الفجائي:
أيها الأخوة، أخ كريم أبلغني أن صديقاً له في رَيْعان شبابه لا يشكو من شيءٍ إطلاقاً، وهو يحفظ كتاب الله قد توفي، والشيء الغريب خلال هذا الشهر أنّ عددًا لا يستهان به ممن أعرفهم، وهم في أوج صحتهم، ونشاطهم، وحيويتهم ، وفي سنٍ صغيرة توفوا، فهذا الموت الفجائي يكثر إلى درجة مذهلة، والله الذي لا إله إلا هو من هذه الملاحظة المقلقة كانت هذه الدروس.
﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾
(سورة آل عمران الآية: 158)
الإنسان هو المخير في تحديد مصيره:
هذا الموت بين أن يكون تحفةً لك، وأن يكون عُرْساً لك، وأن يكون أسعد لحظةٍ في حياتك، وبين أن يكون أكبر مصيبةٍ على الإطلاق، لأنه خروجٌ من كل شيء إلى لا شيء بل إلى عذابٍ لا يحتمل، بينما المؤمن يخرج من الدنيا إلى الآخرة، يخرج من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما يخرج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا , الرحم حجمه سبعمئة وخمسون سنتيمترًا مكعبًا، فالرحم يكون بحجم البيضة قبل الحمل، ثم يصبح حجمه سبعمئة وخمسون سنتيمترًا مكعبًا، فجنين كان في سبعمئة وخمسين سنتيمترًا مكعبًا يخرج إلى الدنيا ؛ إلى خمس قارات، وينتقل من أمريكا، إلى اليابان، وقد يكون رائد فضاء فيصل إلى القمر، وازن بين سبعمئة سنتيمتر مكعب، وبين رائد فضاء وصل إلى القمر، هل يوازن حجم الرحم مع حجم الدنيا ؟ وفي الأثر:
((ينتقل المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا))
أيها الأخوة , و أعيد وأقول: لا يستطيع أحدٌ على وجه الأرض أن ينكر حدث الموت، لأنه ما من حدثٍ مستقبليٍ أشد واقعية كالموت.
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾
(سورة الزمر الآية: 30)
الموت واقع لامحالة فاستعد له:
عش ما شئت فإنك ميِّت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، الموت يأتي فجأة والقبر صندوق العمل، أنا هدفي الوحيد من سلسلة هذه الدروس ألاّ نكتفي أن نؤمن بالموت، بل أن نستعد له، نستعد له بالتوبة النصوح، نستعد له بالعمل الصالح، نستعد له بالبذل والتضحية، لذلك إن شاء الله أرجو الله عز وجل أن ينفعنا بهذه الدروس .
مشاهد الموت:
1- خروج الروح من الجسد:
قال تعالى:
﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾
(سورة الواقعة الآية: 83- 84 )
المريض على فراش الموت، أولاده حوله ، أحد أولاده يجسّ نبضه، يضع يده على جبينه ، يتلمَّس حرارته، وآخر من أولاده يفكر، هل يموت اليوم أو لا يموت ؟
﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
( سورة الواقعة الآية: 83- 87)
أي: هل يستطيع أحدٌ في هذه اللحظة أن يرجع الروح إلى البَدَن ؟.
الإكثار من ذكر الموت:
أيها الأخوة الكرام , يقول الله تعالى:
﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾
( سورة القيامة الآية: 26- 30 )
كلما وقعت أعينكم على جنازة اسألوا أنفسكم: مَن في هذا النعش وإلى أين يسير ؟.
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾
( سورة القيامة الآية: 30- 37 )
أتمنى على بعض الأخوة الكرام، أو عليكم جميعاً، أن تأخذوا من القرآن الكريم مشاهد الموت، وتجعلوها نصب أعينكم، لا لكي تقف الحياة، بل لكي تتألق الحياة ؛ كي تتألق الحياة باستقامة المؤمن على أمر ربه، كي تتألق الحياة وينقل المؤمن اهتماماته من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية .
2 - رؤية كلا من المؤمن والكافر مقامهما:
ورد في الحديث الشريف أن المؤمن يرى مقامه في الجنة عند الموت , فيقول: لم أر شراً قط، وأن الكافر يرى مكانه في النار فيقول لم أر خيراً قط ، وأن الكافر فيما قرأت حينما يرى مكانه في النار يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا.
ولتستمع لقوله تعالى في الآيات التالية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾
( سورة فصلت الآية: 30- 32 )
هذا حال أهل الإيمان، فالملائكة يبشِّرونهم بالجنة، وأما حال أهل الكفران , فالملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، قال تعالى:
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾
( سورة الأنفال الآية 50- 51)
استشكال ورد:
جاءني أخ كريم , وعرض علي سؤالين , ظن أن هناك تناقضا كبيرا بين الآيتين ,
الآية الأولى:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
( سورة البقرة الآية: 286)
ثم قال لي هذه الآية الأولى وهي واضحة، ثم قال: فماذا نفعل بالآية الثانية:
﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾
( سورة البقرة الآية: 286)
التكاليف الشرعية جاءت ميسرة للإنسان من دون مشقة في أدائها:
طالما هناك دعاء ألاّ يحملك الله ما لا طاقة لك به، فمعنى ذلك أن الله يمكن أن يحمل الإنسان ما لا طاقة له به، فكيف نجمع بين الآيتين ؟ قلت: كل آية لها معنىً مستقلٌ عن الآخر، الآية الأولى:
ِ ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
( سورة البقرة الآية: 286 )
أي أن كل التكاليف الشرعية في وسع الإنسان، فالله ما منعك من أن تتزوج ولكن منعك من الزنا، ما منعك من أن تأكل ولكن منعك من أكل المال الحرام، ما منعك أن تكسب المال ولكن سمح لك بالكسب المشروع، فما مِن شهوةٍ أودعها فيك إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، فما كلفنا فوق طاقَتِنا، حتى العبادات ، ما كلفك أن تصلي ألف ركعة في اليوم، خمس أوقات فقط، ما كلفك أن تصوم مئة يوم، كلَّفك أن تصوم ثلاثين يوماً في العام، وإن كنت مريضاً فلك أن تُفطر، وإن كنت مسافراً فلك أن تفطر، فما من تكليف شرعي إلا وضمن وُسْع الإنسان.
لكن بالمناسبة إياك ثم إياك ثم إياك، أن تقول: هذا التكليف فوق طاقتي، لأن وسع الإنسان لا تحدده أنت، بل يحدده الله عز وجل، فلو قلت: أنا لا أستطيع أن أصوم في الصيف، يُمنَع أن تدلي بالرأي في الوسع، وسع الإنسان يحدده رب الإنسان الذي خلَقه، ويعرف مدى طاقته.
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
( سورة البقرة الآية: 286 )
الآية واضحة، فأي إنسان يقول لك: لا أستطيع، كأنْ يقول لك مثلاً: أين أذهب بعيوني، ويقول: كيف أعيش ولابد من أكل المال الحرام ؟ يقول: لابد من أن أغش لأن عندي أولادًا من أين أطعمهم ؟ هذا كلام مردودٌ، وكأنه رد للقرآن الكريم.
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
( سورة البقرة الآية: 286)
ما أمرك أن تدفع مالك كله زكاةً، لا، بل اثنان ونصف في المئة في العام، فالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة كله في وسع الإنسان، هذا معنى الآية.
لا تعاقبنا بذنوبنا بما لاطاقة لنا به:
أما:
﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾
( سورة البقرة الآية: 286 )
الإنسان حينما يختار المعصية، و يختار أن يظلم الناس، و يختار أن يبتزَّ أموال الناس، و يزني , ويعتدي على أعراض الناس، و يتغطٍرس، و يكون سبباً لهلاك الكثير من الناس في الحروب، كالحرب العالمية الثانية انتهت بخمسين مليون قتيل، هؤلاء الذين سببوا هذه الحروب من أجل مصالح شخصية، ومن أجل غطرسةٍ واستيلاءٍ وسيطرة ونفوذ، تركوا خمسين مليون قتيل، فالإنسان يعتدي ويظلم، قد يأتيه عذابٌ لا يحتمله، هذه الآية الثانية، لا تحملنا بسبب أخطائنا، وبسبب ذنوبنا، وبسبب معاصينا، وبسبب ظلمنا ما لا طاقة لنا به.
التقيت مرة بإنسان قال لي: أكاد أموت معي مرضٌ خطير في القلب، ومرض خطير في الجهاز الهضمي، وقال: أدوية القلب تؤذي جهاز الهضم، وأدوية جهاز الهضم تؤذي القلب، فأنا لا أستطيع أن أتناول أي دواء، والآلام لا تحتمل.
فالإنسان حينما يرتكب الفواحش، ويرتكب الذنوب، فمرض الإيدز وحده، تحمُّله فوق طاقة الإنسان، و هناك أمراض أيها الأخوة يكاد الإنسان من شدة الألم يعوي كالكلاب، هذا معنى قوله تعالى:
﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾
( سورة البقرة الآية: 286)
بل إن الله عز وجل يعجب ويقول:
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾
( سورة البقرة الآية: 175)
هل تحملتم أيها الأخوة: الستة والأربعين درجة حرارة قبل أسابيع ؟ كنت في عقد قران، فقام أحد العلماء يلقي كلمة، قال له: يا رب لا نحتمل حر الشام فكيف بحر النار ؟ كلام لطيف، لا نحتمل حر الشام فكيف بحر النار ؟ قال:
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾
( سورة البقرة الآية: 175 )
إذاً: المؤمنون يُبَشَّرون، والكفار يرون مكانهم في النار فيصيحون صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا .
3- سكرة الموت:
الآن، قال تعالى:
﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾
( سورة ق الآية: 19 )
الإنسان قد يشرب الخمر فيسكر، وقد يطرب فيسكر، هؤلاء الذين يحبون بعض المغنين، لو التقوا بهم شخصياً وطربوا، قد يضربون أنفسهم و يرمون ببعض أمتعتهم من شدة الطَرَب، ورد في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَزَادَ غَيْرُهُ يَجْهَرُ بِهِ))
(متفق عليه , أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما)
المؤمن يطرب لسماع كلام الله، ويتأثر به، كما لا يطرب أعظم مدمني الغناء إدماناً على أغانيهم، المعنى الأول سكرة الخمر، سكرة النشوة , أما هنا فنحن أمام معنى آخر:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
( سورة الحج الآية:1-2 )
هذه سكرة الخوف، سكرة الفَزَع، سكرة الدَهْش، حدَّثني أخٌ شهد زلزال القاهرة، قال لي: زوجته من شدة الفزع أمسكت حذاء زوجها وظنَّته ابنها، حملت الحذاء وولت هاربة إلى الطريق من شدة الفزع، وهي تتوهَّم أنها تحمل ابنها، كم هي مضطربة وخائفة ؟.
في تركيا وقع زلزال بسيط، مئة شخص وزيادة ألقوا بأنفسهم من الشرفات، ومن طوابق عُليا من شدة الخوف، فنزلوا وقد تكسرت عظامهم من شدة الخوف.
﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
سورة الحج الآية: 2)
هنا معنى قوله تعالى:
﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾
( سورة البقرة الآية: 286 )
أي إذا كنت لا تقوى على تحمل هذا العذاب، فكيف تعصي الواحد الديَّان ؟.
﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾
(سورة ق الآية: 19)
4- الموت هو ملخص سيرة وعمل الإنسان في الدنيا:
أيها الأخوة، طريقة الموت لا يمكن أن تكون عشوائية، طريقة الموت يحددها رب الإنسان، ويلخص بها عمله كله. أنا أعرف رجلاً له أعمال صالحة تفوق حدَّ الخيال، له إنفاق لا يصدَّق، له تواضع، له مؤاثرة وتضحية لدرجة عالية جداً، عاش ثمانين عاماً، وفي رمضان ختم القرآن، وفي ليلة القدر وهو في المسجد وهو ساجد قبضه الله عز وجل إليه.
هناك أناس آخرون، ادَّعى رجل في الهند أنه نبيٌ بعد رسول الله، وقد اجتاحت الهند موجة كوليرا عارمة، قال: لأنني نبي لا أصاب بهذا المرض، فما الذي حدث ؟ أنه أصيب بهذا المرض، ووجدوه ميتاً في المرحاض، في دورة المياه، في الحمام. فموت الإنسان يلخص عمله في الدنيا كلها.
كرامة المؤمن عند الله:
ذات مرة كنت في تعزية، وجلس إلى جانبي عالم جليل من خطباء دمشق اللامعين، أنا لا أزكِّي على الله أحداً، ولكنني أحسبه صالحاً، وجريئاً ونزيهاً ومستقيماً، وكان بيني وبينه ودٌ شديد، فجلس إلى جانبي وسألته عن صحته، لا يشكو شيئاً، خرج من بيت التعزية، فما إن مشى عدة أمتار حتى رآه أخٌ لا يعرفه إطلاقاً، ولا يعرف اسمه، ويسكن إلى جوار بيت التعزية، قال له: يا أستاذي أتحب أن أوصلك إلى بيتك , قال له: بارك الله بك يا بني إذا شئت. وهذا الأخ يسكن إلى جوار بيت التعزية، أوصله إلى مدخل البناية، هذا الشيخ الجليل صعد الدرج، بيته في الطابق الرابع، وفتح الباب، وذهب إلى غرفة النوم، وخلع عمامته، وخلع جبته، واستلقى على السرير، وسلَّم روحه إلى بارئها، فلو أراد أن يستأجر سيارة عامة، لا يمكن إلا أن يموت في السيارة، لكرامته عند الله عز وجل جعله يموت على سريره وبين أهله، فالموت حقٌّ، ولكن قد ورد:
((صنائع المعروف تقي مصارع السوء))
طرائق الموت:
أعرض عليكم أنواعاً كثيرة من طرائق الموت، صنائع المعروف تقي مصارع السوء، إنسان يجلس أمام التلفاز، وجد أن الصورة قد اختفت، فصعد إلى السطح حيث الصحن موجود، فرأى أن هناك سارقًا يسرق الإبرة، فتعارك معه، وتلقى لكماتٍ منه، فوقع مغشياً عليه، وأصيب بأزمة قلبية فمات، لأن الصورة اختفتْ، وهذه ميتة كذلك.
إنسان آخر، اضطربت الصورة، فتبيّن أنّ هناك غصنًا شجرة يأتي أمام الصحن ويحجب الصورة، فجاء بسلم وصعد على السلم، وأمسك بالمنشار وقطع هذا الغصن، لم ينتبه أنه متمسك بالغصن نفسه الذي يقطعه، فلما انتهى من قطعه سقط فنزل مع الغصن ميتاً، وهذه ميتة أيضاً , طريقة الموت تلخيصٌ لحياتك كلها، هل تصدق أن الميت أحياناً، أو الذي على مشارف الموت مهما لُقن (لا إله إلا الله) لا يلفظها أبداً ؟ فأن ينطق الإنسان بالشهادتين بيسرٍ وراحة، وأن يستسلم لرب العالمين، وأن ينتقل إلى الدار الآخرة انتقالاً رائعاً، فهذه علامة الإيمان.
5- النزعة الأخيرة التي يعاني بها المؤمن من متاعب الدنيا هي سكرة الموت:
أيها الأخوة , والله الذي لا اله إلا هو لا أجد إنسانا أعقل ولا أذكى ولا أشد توفيقا من هذا الذي يعد لهذه الساعة التي لابد منها , إذا سكرة الموت مخيفة جدا , وحسبما يقول
الأنبياء مانجوا من سكرة الموت:
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ))
( متفق عليه , أخرجهما بخاري ومسلم عن عائشة )
فسكرة الموت للمؤمن آخر شيء مزعج في حياته، وبعدها جنة عرضها السموات والأرض، أما سكرة الموت للكافر فأقل شيء مزعج لما سيأتي، فبين أن يكون الموتُ أكبر شيء مزعج في كل حياته، وبين أن يكون أقل شيء مزعجٍ لما بعد الموت،
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ))
( متفق عليه , أخرجهما بخاري ومسلم عن عائشة )
﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
( سورة ق الآية: 19- 22 )
إيمانك في الدنيا تنتفع به عند الموت أما إيمانك ساعة الموت لا تنتفع به:
أخواننا الكرام , الحقائق التي جاء بها الأنبياء تُكْشَف لك كلها عند الموت، ولكن إن كُشِفَت لك وأنت حي تنتفع بها، أما إن كشفت لك بعد الموت فلا قيمة لها، حتى فرعون يؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل، ويقول: أنا من المسلمين، ولكن بعد فوات الأوان.
فبربكم لو أن طالباً لم يكتب شيئاً في الامتحان، فلما خرج من الامتحان، راجع الأسئلة في الكتاب فعرف الإجابة، فأرسل كتابًا إلى وزير التربية: يرجى إدراج اسمي مع الناجحين، لأنني عرفت أجوبة الأسئلة بعد الامتحان، هذا يحتاج إلى مستشفى الأمراض العقلية، فكل إنسان عند الموت تُكشَف له الحقائق، ولكن لا ينجح الإنسان إلا إذا كشفت له في الوقت المناسب.
6- الأدلة الواردة في الكتاب على وصف حالة الكافر عند الموت:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ*﴾
( سورة الأنعام الآية: 93)
هذه آيةٌ أيضاً تصف حالة الكافر عند الموت، لكن كما قلت قبل قليل: ما يصيب المؤمن في أثناء سكرة الموت، هو آخر شيء يصيبه من متاعب الحياة، عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها:
((وَا كَرْبَ أَبَاهُ فَقَالَ لَهَا لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ...))
(أخرجه البخاري في صحيحه )
﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
( سورة النحل الآية: 32 )
مثال بسيط لتوضيح المعنى حينما يتكرم المؤمن عند ربه:
ذات مرة وقعت قصة منذ أربعين سنة تقريباً، إذْ ارتأت وزارة التربية أن تكرم الناجحين، وهي تكرمهم كل عام تقريباً، فأكرمت الأوائل في الشهادة الثانوية، ودعتهم إلى حفل راقٍ جداً، وحضره رئيس الجمهورية، ولقد أكرموهم ، وأطعموهم أطيب الطعام، وأثنوا على ذكائهم وتفوقهم ، وهذا الحفل ترك في نفسي أثراً أن الطالب درس وتعب، وأجبر نفسه على الدراسة، وترك النزهات، وترك الجلسة مع أهله، فلما وصل إلى هدفه اختلف الموقف، كان موقف بذلِ جهد فصار موقف تكريم، تقريباً الدنيا دار تكليف والآخر دار تشريف، الدنيا دار عمل والآخر دار جزاء، الإنسان بعد التعب الشديد، يأخذ نتائج عمله.
في بعض البلاد إلى الآن الأوائل في الشهادات تقام لهم حفلة تكريمٍ عاليةٍ جداً، ويتسلمون شهاداتهم من يدِ أعلى شخصية في بلدهم، هذا من باب التكريم، والمؤمن كذلك.
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً﴾
( سورة الزمر الآية: 73)
لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة الزهراء:"يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، أبتاه إلى جبريل ننعاه"، فلما دفن عليه الصلاة والسلام قالت لأنسٍ الذي شارك في دفنه: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.
7- البصر يتبع الروح:
أيها الأخوة , يروي الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
(( ألم تروا إلى الإنسان إذا مات شخص بصره ـ أي فتح عينيه ونظر إلى الأعلى ـ قالوا: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: فذلك حينما يتبع بصره روحه ))
( أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة )
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شق بصره ـ أي شخص بصره إلى أعلى ـ فأغمضه صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الروح إذا قبضت تبعها البصر.
لذلك من السنة إذا مات لأحَد المسلمين قريب، وكانت عيناه مفتوحتان ، أن يغمضهما، فإذا وضع الإنسان يده على عيني الميت أسبل الجفنان، وكأنه أغمض عيناه، وهذا من السنة، أما لماذا فسَّر النبي شخوص البصر ؟ بأن الروح إذا صعدت إلى بارئها تبعها البصر، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأبي سلمة.
ينبغي على المسلمة أن لا تفزع على الرزق إذا مات زوجها فالرزاق هو الله:
أتمنى على كل إنسان أن يعلِّم أهله، فبعض النساء الفاجرات إذا مات أزواجهن يقلن: الجسر انهد، قالت امرأة بعد أن مات زوجها: ما عرفته رزَّاقاً، بل عرفته أكالاً فقط، فالرازق هو الله عز وجل.
الدليل:
يروى أن عالماً جليلاً صالحاً من أهل البصرة، تمنى أن يحج بيت الله الحرام، فاستشار أولاده، وهو معه مال يكفيه كي يحجَّ بيت الله الحرام، وليس معه مال يكفي لنفقة أهله في غيابه، فتاقت نفسه للحج فاستشار أهله، فرفضت زوجته وأولاده، عنده بنتٌ صالحة جداً، قالت: يا أبي اذهب، واللهُ لن ينسانا من فضله. أنا لا أقول هذه القصة تشريع , إياكم أن تقلدوها، فالإنسان إذا أراد أن يحج بيت الله الحرام ينبغي أن يمتلك نفقةً له في الحج، ونفقة لأهله في غيبته، هذه هي السنة، يجب أن تفرقوا دائماً بين الحكم الشرعي والموقف الشخصي، أحياناً هناك موقف شخصي، سيدنا الصديق حينما شرب اللبن تقيَّأه، ولا يكلف أي مسلم إذا علم بعد أن أكل طعاماً أنه حراماً أن يتقيأه، سيدنا عمر لما هاجر تحدى المشركين وقال: مَن أراد أن تثكله أمه فليتبعني بهذا الوادي، هذا موقف شخصي، أما النبي الكريم فقد خرج في الليل تحت جنح الظلام، واختبأ في غار ثور، ولو أن النبي هاجر كما هاجر عمر لعدَّ أخذ الحيطة حراماً، ولعدَّ اقتحام الأخطار واجباً، ولهلكت أمته من بعده، دائماً تتبع الحكم الشرعي، ولكن الموقف الشخصي هذا موقف إنْ نجح فاعلُه فبها ونعمت، وإلاّ فصاحبه مسؤول، فالحكم الشرعي أن تؤمِّن نفقة أولادك في غيبتك.
فالزوجة رفضت والأولاد، إلا أن هذه البنت التقية الورعة قالت: يا أبي اذهب فإن الله لن ينسانا، بعد أيامٍ عدة نفد ما عندهم من طعام، ونفد ما عندهم من مال، فصُبَّت النقمة كلها على هذه الفتاة التقية التي شجعت أباها على الذهاب إلى الحج، ولم تعبأ بمصروف البيت، نقموا عليها نقمة شديدة، دخلت إلى غرفتها وصلت وقالت: يا رب لا تخزني، أنا اعتمدت على أنك أنت الرزاق، وأردت لوالدي أن يحج بيت الله الحرام، وتوسلت إلى ربها ألاّ يخزيها , من غرائب الصدف أن أمير البلدة كان في تلك البلدة وأمام بيت هذا الرجل الصالح، ويبدو أنه حاتم الأصم، فعطش عطشاً شديداً قال: ائتوني بماء، فطرق جنوده باب حاتم الأصم، فقالوا: الأمير يطلب الماء، فهيؤوا له ماءً بارداً عذباً، فيبدوا أن الأمير استمتع بالماء إلى حدود كبيرة جداً، فكأنه تمتَّع به متعةً استثنائية ,
قال: بيت مَن هذا ؟
قالوا: بيت حاتم الأصم.
قال: العالم الجليل ؟
قالوا: نعم.
قال: لو نسلم عليه ؟
قالوا: هو في الحج.
قال: ينبغي إذًا أن نُكرم أهله في غيبته، فأخرج من جيبه دنانير ذهبية وألقاها ، فجاءهم رزقٌ وفيرٍ يغنيهم إلى آخر عمرهم، يبدو أن هؤلاء الأهل فرحوا، ودخلوا على ابنتهم ليعلموها، فإذا هي تبكي شكراً لله عز وجل.
ذات مرة حدثني رجل عن امرأة , زوجها مسافر سفرا بعيدا , وكلمة مسافر قد تفهم بمعنى آخر لا معيل لها , وابنها في مرض شديد ولا تملك ثمن الطعام فضلا عن ثمن الدواء ,
فطُرق بابها الساعة الثانية ليلاً، مَن ؟
قال: الطبيب فلان، عجيب ! فتحت له الباب وعرضت عليه ابنها وعالجه.
قال: يا أختي أعطِني الأجرة.
قالت: أي أجرة هذه ؟
قال لها: ألا تستحين ! تتصلين بي بالهاتف من أجل أن آتي في هذا الوقت المزعج، وتقولين أي أجرة ؟
قالت: والله ما اتصلت بك، وليس عندي هاتف أساساً.
قال: بيت من هذا ؟
قالت: بيت فلان.
إذا اتصل بجيرانهم به، فطرق الباب خطأً، فلما فهِم القصة، أعطاهم ثمنَ الدواء، وأكرمهم إكراماً شديداً، و خصَّص لهم معاشاً شهرياً، فلما عاد زوجها قَصَّت عليه القصة، وقالت له يومًا مداعبةً: إذا ضاق بنا الأمر فاذهب وسافر.
أيها الأخوة , أريد أن أقول لكم: إنّ الله عز وجل لا ينسى أحداً من فضله، إذًا لا تقولي: جسر هُدَّ، أعرفه أكالاً، ولا أعرفه رزاقاً، هذا كلام النساء المنحرفات، كلام النساء الجاهلات، هذا الموت قدر الله عز وجل على الإنسان، فالمؤمن كلما كان إيمانه أكبر يستقبله بصدرٍ رحب، وبرضا من الله عز وجل.منقول