دوما قصص الحب دون سواها من القصص تَفْتَعِلُ بدايتها " الصدفة " ، و كأن
القدر يضع القلوب على مقربة من بعضها البعض كي تبتدء ساعات الانتظار الموجع
!
و تتكاثر المواعيد ، و لحظاتُ الترقب ليستمر المسير على دروب الهوى إلى
نهاية الطريق مبهم النهاية ، و غالباً ما تكون سحابة مثقلة بالخيبات .
و قصتي ان صح تسميتها بقصة تعتبر غضة بحجم السماء اجتاحت حدود ذاكرتي و
باتت تجثو في مخيلتي لتطبع في ذاكرتي بقايا حبٍّ قديم بدء بصدفة ، و صدق من
قال :- " رُبَّ صدفةٍ خير من ألف ميعاد "
في ذلك الوقت حملتُ أمتعتي و جواز السفر، و قررتُ السفر حيث صقيع الأرض
فراراً من حياة صعبة بما يكفي كي نموت ، و مدينة تعج بالخراب ، و وطن مبتلي
بعدو كافر ، و قلوبٍ شلت ارادتها بنادق عوجاء سكنت صدور جيوشهُ الهوجاء ، و
كثيرة هي الاشياء التي اجبرتني على الفرار الى خارج خارطة الوطن .
و بينما لا أزال في المطار أنفض عن نفسي غُبار ذاكرة قفراء من الفرح قبل
دخولي المدن الجديدة ، رأيتها تقف أمامي حسناء تحمل وجهاً طفولياً يطرز
الجمال على مساحته ملامحها الساحرة مستخدماً الخيط الوردي المغري ، و خيطاً
أخرمن بريق النشوة في ضفيرة تنسدل على كتفها ليطفي عليها أنوثة طاغية
احترفت سلب الألباب حيثُ تعلق في الذاكرة لما بقي من العمر .
مرت في حياتي لثانية كنسمة صيفٍّ تاركةً لي بعضاً من سحر تلك اللحظة ، و
معها رشة من عطر الحب الزاكي الذي توهج في قلبي من النظرة الأولى .
كانت تفتش عن شئ ما في حقيبتها ، و عيناها معلقتان في وجهي ، أو هكذا
اعتقدت ، و إذ بشئ صغير يسقط من حقيبتها تدحرج ، و استقر بالقرب من قدمي ،
انحنيت لأخذه ، و مع انحنائي انحنت هي الأخرى لتمتد تلك اليدين الصغيرتين
في نفس الوقت الى هذا الشئ الصغير ؛ نظرتُ بانبهار الى تلك العينين
الجميلتين ، و لم اعرف بعدها كم مضى من الوقت في انحنائنا سوياً ، و لا في
النظر في صمت الى عينيها ، بينما هي تتأمل تضاريس الآرق في عينيّ ، حال
بيني و بينها ضجيج مدٍ و جزر ، و خط سير معكوس الاتجاه ، حاولت لملمت شتات
نفسها و زفرات خجل وشمت فوق محياها ، و بصمت كترنيمة يتيمة وقفت أرقب
التفاتتها الأخيرة التي كسرت خط سيرها المستقيم لتضطرب في نفسي أمواج الخوف
و القلق ، و هي تهم بركوب عربة تبعدها عن ناظري .
حاولت أن أستوقفها ، ركضتُ خلفها كمجنون أسابق المسافات الطويلة ، و هي
تلوح لي بكفيها من خلف الزجاج حتى استحالت العربة إلى نقطة صغيرة على مدى
البصر .
هي صدفة مجنونة حولت مجاري حياتي من سبيل معلوم الإتجاه إلى ضياع ، جعلتني
تلك العيون الساحرة أن أقلع عن السفر ، و أعود لأبحث عنها خلف تعرجات خطوط
خارطة وطن تجمعنا حدوده ، سلبتني اللب و القلب بنظرة ، ولا أدري كيف جرى ما
جرى .
و صدفة أخرى جمعتني بها بينما كنتُ أتسكع في صخب غربتي عنها ، فإذ بها تمر
من أمامي ، كنتُ أعلم أن اليوم الذي سألقاها فيه سيأتي بعد غياب كل أمس .
كم وددت أن ألفت انتباهها ، لم أكن قريباً منها لكنني كنتُ أراها بوضوح ، اتجهت إليها بسرعة ، و سألتها :- " كيف حالك ؟ "
لم تجبني ، و استنكرت سؤالي ، و ألف علامة تعجب رسمت على وجهها ،
و ببرأة سألت :- " من تكون يا أخي ؟؟ هل هناك سابق معرفة ؟؟ "
تسمرتُ أمام سؤالها ، ولم أعرف بماذا أجيب ، أثرتُ الذهاب هرولة من أن أبقى
في هذا الموقف ، و لا أدري كيف عدلتُ عن رأيي ، أخذت بيدها نحو أول مقعد
صادفني ، و أجلستها ، و جلستُ بجوارها أخبرها بحكايتي معها ، و منذ ذلك
الوقت زادت العلاقة بيننا حيث بدأنا نعتاد اللقاء بصورة مستمرة ، و بدأت
أعرف عنها الكثير ، و تعرف عني الأكثر ، كنا نسير في دروبنا التي حفظتنا
أكثر مما حفظناها ، نتحدثُ عن ذواتنا و ذوينا عن ترابٍ نحنُ منه و إليه ، و
عن غربة تسكن خواء أرواحنا ، و لطالما أخبرتها أنها اغتالت بحضورها غربتي ،
و أني سأكون لها الأم و الأب و الوطن .
و في إحدى المرات و دون شعور مني مددتُ ذراعيّ ، و احتويتها كما لم أشعر
كيف سحبت نفسها من بين ذراعي ببطئ مميت ، و أنا طوع رغبتها أفلتها ، و
ابتعدتُ عنها قليلاً ، ثم بصوتٍ مخنوق بالعبرات قلت لها :- " هل تعلمين أني
أحبكِ "
ضحكت و تجلجلت ، فاجئتني ضحكتها ، ولم تكتفي بهذا القدر بل أتبعتها بعبارة
" أكيييييييييييد هذه كذبة نيسان " ، و كانت هذه الأنثى الملائكية في حياتي بمثابة كذبة ولدة و ماتت في الأول من نيسان !
لم يكن صدفة أن أبكي ، و أنزف دمعاً غزيراً على ردها ، فقد عضتني بناب
إجحافها في قلبي ، و الوجع في الأحشاء أبكيها بكاء طفل فارق أمه ، و ما
حيلتي غير البكاء !
تركتُ المكان بصمت أجر أذيال خيبتي ، و مع هذا كنتُ أنتظر منها أن تخبرني
بأي شئ لكنها لم تفعل ، فنسيتُ كل شئ ، و لم يبقى منها إلا غصة تسكن نابضي
مكانها سراديب الذاكرة التي حجزتها لنفسها مع اول نظرة .
م / ن